الزعيم.. وكم الزاكتة..

حسام السكرى
حسام السكرى

آخر تحديث: السبت 20 فبراير 2016 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

قبل تخرجى فى الجامعة بسنتين شاركت فريق تمثيل الكلية فى تقديم مسرحية «الثأر» للكاتب ألفريد فرج ضمن مسابقة التمثيل فى جامعة القاهرة، وقمت فيها بدور غفير مأجور وقاتل، لحساب عمدة إحدى قرى الصعيد. فى الوقت ذاته شاركت بدور فى مسرحية بابا زعيم سياسى لسعد الدين وهبة. كان دورا قصيرا فى الختام عهد به المخرج لى «فوق البيعة». فشلت مسرحية الثأر لعدة أسباب من بينها إتقانى للأداء بلهجة أهل الصعيد، إلى حد أن أحدا لم يفهم شيئا مما قلته على خشبة المسرح. وهو ما أجمع عليه من جلسوا حتى نهاية العرض ومن خرجوا أثناءه. أما الدور الصغير فرشحت عنه لنيل جائزة من جوائز التمثيل لسبب.. لا علاقة له بالتمثيل. إذ يمكننى الآن مصارحة نفسى بأن الفضل ينبغى أن يعزى إلى «كم الجاكتة» التى ارتديتها فى العرض، وهو ما كان مخرج المسرحية يسميه ساخرا «كم الزاكتة».

تحكى المسرحية التى كتبها سعد الدين وهبة، قصة احتجاز رجل بطريق الخطأ، بسبب انتمائه إلى حزب سياسى معارض. تسقط الحكومة بعد القبض عليه فينتقل المعارضون إلى مقاعد الحكم. تسمع مجموعة من أنصار الحزب الذى صار حاكما، بخبر إلقاء القبض على أحد زعمائها المجهولين، فيزحفون فى مظاهرة كبيرة نحو السجن ليخرجوه محمولا على الأعناق، فيصبح بعدها زعيما سياسيا معروفا.

كنت أؤدى دور قائد مجموعة المتظاهرين‪/‬ الهتيفة. قدتهم على خشبة المسرح إلى السجن أو مكان الاحتجاز، وشرعت ألقى خطبة عصماء مطالبا بتحرير الزعيم. فى نهاية كل مقطع من خطبتى كان هتاف المجموعة الصاخب يقاطعنى، فألتفت إليهم فى سخط مصطنع، لآمرهم بالسكوت.

أثناء إجراء بروفات المسرحية صدرت عنى حركة عفوية لفتت نظر المخرج. كنت أخطب وظهرى للمجموعة، وعندما كنت أقترب من نهاية مقطع فى الخطبة، كنت أعطيهم إشارة باليد من خلف ظهرى فتعلو حناجرهم بالهتاف. وعندها أستدير لهم فى حدة وجدية، متصنعا الغضب وطالبا الهدوء، ثم أستأنف الخطابة. أعجب المخرج بالنفاق الواضح فى الموقف ولكنه لم يكن مستريحا تماما. فجأة نظر للسترة التى كنت أرتديها نظرة متفحصة، ثم طوى كُمها مرتين إلى الأعلى. نظرت له مستفهما فأجاب: دى كانت المشكلة.. قصر الكم.. الناس كده مش هتاخد بالها أنا عاوز الناس اللى فى المسرح كلهم يشوفوا إيدك وانت بتدى الإشارة من تحت لتحت. قدمنا المسرحية بعدها أكثر من مرة، فى داخل الجامعة وخارجها، وكان هذا الدور الصغير دائما هو الأكثر اضحاكا، بفضل كم «الزاكتة» القصير.

حماس الجمهور لهذا المشهد بالذات كان دائما يدهشنى. ومضت سنوات طويلة قبل أن أعرف لهذا تفسيرا، إلى أن أدركت أنه يعبر عن تناقض نعيشه على كل المستويات، عندما نرى المدير، المسئول، القائد، الزعيم وهو يرفع شعارات الحب والاحترام والنزاهة، والاحتواء ويروجها فى خطابه للموظفين، العمال، الفقراء، الشباب. أما ما يجرى على الأرض فيناقض هذا تماما. فى فضائنا العام يسود خطاب الود والعطف واحترام المواطن والقانون والدستور. أما على الأرض فهناك الضرب، والنهب، والقمع، والتعذيب، والسجن، والانتهاك. من حين لآخر سنرى التفاتة، أو نسمع «شخطة»، وصوتا يقول «توقفوا»، ولكن الإشارة من طرف خفى واضحة لا تخطئها العين، لأن كم الزاكتة قصير.. قصير للغاية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved