لماذا اهتمامى بأوكرانيا؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 20 مارس 2014 - 11:40 ص بتوقيت القاهرة

أن أكرر الكتابة عن الآثار الواقعة والمحتملة على مصر وسياستها الخارجية نتيجة التطورات الأخيرة فى أوكرانيا، لا يعنى أننى أبالغ فى تقدير أهمية مصر، وإن كنت بالفعل أعتقد أن لموقعها وتاريخها أهمية فى تقرير ما يحدث لها ولمن حولها، ولا يعنى أننى لا أرى أمة غيرها أو دولة أخرى إلا من خلال منظورها، وإن كنت أتصور أحيانا أن بعض أحكامى تصدر متأثرة بأحوال مصر وظروفها، تماما كما يحدث عندما أحكم على أشخاص وأشياء متأثرا بحالتى النفسية والذهنية، وبإدراكى الشخصى لما يحدث حولى.

أهتم بمتابعة وتقدير آثار أحداث أوكرانيا على مصر لأسباب موضوعية لا علاقة مباشرة لها بأوكرانيا، وأظن أنها واضحة. منها على سبيل المثال:

أولا: إننا نعيش فى عالم ترابطت أجزاؤه وتداخلت أزماته ومشكلاته وتشابكت اهتماماته وتواصل البشر فيه بدرجات لم يعرف التاريخ الإنسانى لها مثيلا.

ثانيا: إن مصر تحديدا، وأقصد مصر الراهنة، تحاول بجهد ملموس وتحت ظروف قسرية وطوعية معا، الخروج من كمون طويل تدهور فى بعض مراحله إلى سنوات انعزال، وبينما هى تحاول الخروج من هذا الكمون يزداد شعور القائمين عليها بأنهم أمام عالم غريب. أدواته غريبة وسلوكياته غريبة.

ثالثا: أمام هذا العالم الغريب، كان لابد لمصر أن تجتهد. تجتهد لتفهم، وتجتهد لتغير، وتجتهد لتقتحم آفاقا غير مألوفة، أو على الأقل لم تكن مرئية بعيون تعودت على الكمون والتردد. أكاد على البعد أحيانا، وعلى القرب أحيانا أخرى، ألمس الجهد المطلوب دبلوماسيا لتحريك مواقف وفتح نوافذ وطرق أبواب والقفز فوق أسوار، وقبل هذا وذاك، الجهد المطلوب لنزع الخوف. أعرف أن البعض يجتهد.

رابعا: بعد سنوات كمون وسنوات انعزال جاءت سنوات انشغلت فيها مصر بصراعات ثورة داخلية. انتبهنا إلى صراعات الداخل وأهملنا صراعات الخارج ولم نقدر ضخامة الثمن الذى سيتعين علينا دفعه نتيجة أن تجرى صراعات الخارج ونحن غائبون عنها. لم نفكر فى الثمن إلا متأخرا. حانت ساعة اللحاق بما فاتنا والالتفات إلى تعاظم تكاليف الغياب والإهمال.

خامسا: كتب كثيرون فى الأيام القليلة الماضية عن «أثر الفراشة»، هذه الرواية الرمزية عن فراشة رفرفت بجناحيها فى الصين فهبت العواصف فى الشرق الأوسط. الفراشة التى تعنينا رفرفت بجناحيها مرتين ولكن ليس فى الصين وإنما فى شرق أوروبا، بخاصة فى أوكرانيا. رفرفت مرة فهبت العواصف فى الشرق الأوسط تحت عنوان الربيع العربى. وها هى ترفرف مرة ثانية.

كثيرة هى الظروف والأسباب الموضوعية، أى غير المباشرة، التى فرضت على المسئولين فى مصر الاهتمام بتطورات الأحداث فى أوكرانيا. فرضت الاهتمام على أنصار التغيير بالثورة والإصلاح وفرضت الاهتمام على أعداء التغيير وأهل الارتداد، بخاصة هؤلاء الذين اكتشفوا أنه ما من أمل فى التعجيل بالعودة إلا إذا استوعبوا بالفهم وغيره تفاصيل الثورة البرتقالية وارتداداتها.

<<<

كثيرة أيضا، وربما أكثر هى الأسباب المباشرة التى تحثنى وتحث عددا غفيرا من المحللين والمفكرين فى العالم العربى على الاهتمام بالتطورات فى أوكرانيا. من هذه الأسباب اختار بعضا لعله من بين الأهم والأشد دلالة:

أولا: كلنا، وأقصد المصريين وغيرهم من شعوب المنطقة، استعدنا منذ شهور عادة الاهتمام بروسيا. عدنا وعادت روسيا، أو بمعنى أدق، نحاول نحن والروس العودة إلى التقارب والفهم المتبادل. ولما كانت أوكرانيا، فى معظم أبعادها، قضية روسية، كان منطقيا أن تخترق تطوراتها حيز هذا الاهتمام المتبادل. بهذه التطورات الأخيرة تظهر أوكرانيا طرفا فى قضية «النظام الدولى تحت الإنشاء»، وطرفا فى خطط دفاع استراتيجية إقليمية، أى فى الشرق الأوسط وشرق أوروبا وما بينهما.

ثانيا: أثارت التطورات الأوكرانية ينابيع فضول لا تنضب، فقد بدأ مسلسل ثورات مرحلة ما بعد الحرب الباردة فى أوكرانيا، أو قريبا منها. بدأ أيضا هناك مسلسل الانقلاب على الثورة. بدأ هناك، أو قريبا منها. قبل أيام عادت عناصر الثورة البرتقالية لتحتل ميادين العاصمة وتسقط حكومة الانقلاب. عادت ولكن مهلهلة تجر فى أذيالها هواجس انفراط الدولة والحرب الأهلية والصراع الدولى. فى كييف حاليا رئيس غير شرعى، أما الرئيس الشرعى الذى جاء بانتخابات حرة فقد اختار المنفى مفرا له. وفى القرم قامت دولة مستقلة باستفتاء شرعى مثله مثل استفتاء أجرى فى كوسوفو وآخر أجرى فى جبل طارق وثالث فى جزر المالفيناس «Islas las Malvinas» البريطانية اسما والأرجنتينية تاريخا ورابع يستعدون له فى اسكتلندا.

ثالثا: تتعدد الاجتهادات حول التكتيك الذى سوف تستعمله موسكو فى حال صعدت أمريكا من عقوباتها ومواقفها ضد روسيا. هل ستلجأ إلى إنهاك الدبلوماسيات الأمريكية والغربية فى الموضوع السورى؟ هل تفتح للغرب جبهة صراع جديدة فى الشرق الأوسط؟ هل تقوم برفع مستوى تقاربها مع دول عربية إلى درجة تحالف عسكرى وسياسى؟ الأمر المؤكد فى نظرى هو أن تطورا على هذا الصعيد يمكن أن يضع الدبلوماسيات العربية فى موقف شديد الدقة والحساسية وأمام قرارات أغلب الدول العربية لم تتأهل لها أو لعواقبها.

رابعا: ظهر فجأة فى واشنطن، وعواصم أوروبية عديدة، مفكرون وأكاديميون يدعون الخبرة الطويلة فى شئون الحرب الباردة، وفجأة اكتظت صفحات الصحف ومنصات الخطابة وقاعات العصف الفكرى بهؤلاء الذين عادوا يدعون إلى رفع مشكلتى أوكرانيا والقرم إلى مستوى صراعات الحرب الباردة. ما أشبه هؤلاء بمفكرين مصريين وعرب حملوا فجأة فى الأسابيع الماضية شعارات نسبوها للناصرية وراحوا يدعون إلى العودة إلى سياسات سبق لمصر ودول عربية أخرى استخدامها لتستفيد من وضع الاستقطاب الدولى بين طرفى الحرب الباردة.

خامسا: يعرف المقربون من مشكلات الطاقة والغذاء فى مصر أن استمرار أزمة أوكرانيا يعنى زيادة فى أسعار القمح باعتبار أن أوكرانيا تتصدر قائمة الدول المصدرة إلى مصر. تعنى أيضا أن أمريكا قد تضيف عقوبات جديدة على روسيا تكون نتيجتها صعوبات فى تنفيذ تفاهمات السلاح والطاقة بين مصر وروسيا وفى تبادل الزيارات بين روسيا ودول الشرق الأوسط.

<<<

باحتلال اراض مختلف على سيادتها بين روسيا وجورجيا استطاع بوتين تحقيق بعض الاستقرار والأمن فى منطقة القوقاز. وباحتلال شبه جزيرة القرم وإعداد الظروف المناسبة لانفصال شرق أوكرانيا سيكون بوتين فى وضع أفضل لتأمين مواقعه على البحر الأسود. وبنجاحه فى فرض دور طويل الأجل لروسيا فى المفاوضات المتعلقة بسوريا وإيران، تزداد فرص بوتين لاستعادة أو تدشين مكانة لائقة بروسيا فى البحر المتوسط.

يتبقى أن يعيد بوتين ترتيب أوراقه مع كل من بولندا ودول البلطيق، لكى يستطيع أن يقول لشعب روسيا إنه رد حلف الناتو على أعقابه. وأعاد لروسيا هيبتها وكرامتها

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved