تحرير.. أم عدم تحرير للتجارة الدولية؟

ماجدة شاهين
ماجدة شاهين

آخر تحديث: الأحد 20 مارس 2016 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

دخلت الانتخابات الأمريكية مرحلة أكثر حسما وبدأت الموضوعات تتبلور والمناظرات تحتد ويزداد حرص المرشحين على توضيح مواقفهم بقدر أكبر من الموضوعية والحكمة.

ويحظى موضوع تحرير التجارة باهتمام كبير، نظرا لارتباطه الوثيق بالعمالة وتوفير فرص العمل، وهو على ما يبدو على قمة أولويات المرشحين من كل من الحزبين الجمهورى والديمقراطى على حد سواء. غير أن موضوع حرية التجارة له أبعاده الدولية أيضا، ولا شك أن ما نشهده من بوادر تحول فى الموقف الأمريكى واللهجة الأكثر تقييدا للتجارة، سوف يكون له أثر بعيد المدى على التجارة الدولية عامة، ومصير منظمة التجارة العالمية بصفة خاصة.

ومن زمن ليس ببعيد كان الرؤساء الأمريكيون يمتدحون مزايا تحرير التجارة ويتسابقون فى إبرام اتفاقيات تحرير التجارة فتحا للأسواق وتحقيقا لأكبر قدر من الفوائد من جرائها. وكانت السمة المشتركة بين الرؤساء ريجان وبوش من الحزب الجمهورى وكلينتون وأوباما من الحزب الديمقراطى هى الدفع بتحرير التجارة الدولية، وهى من الموضوعات القليلة التى كانت تحظى بثنائية حزبية فى الكونجرس الأمريكى. وعلى سبيل المثال، قامت إدارة بوش من الحزب الجمهورى، بالتفاوض حول اتفاقية النافتا المعنية بتحرير التجارة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، بينما قامت إدارة كلينتون من الحزب الديمقراطى، بتعبئة التأييد اللازم لها من قِبَل الكونجرس والتصديق عليها.

كما تعتبر إدارة أوباما أحد إنجازاتها الرئيسية التى ستحسب لها – إن تحققت – هو التفاوض والتوقيع على اتفاقيتى تحرير التجارة عبر الأطلنطى مع الدول الأوروبية وعبر الباسفيك مع الدول الآسيوية. وتعتبر إدارة أوباما الاتفاقية الأخيرة فاتحة السياسة الأمريكية إزاء الدول الآسيوية الكبرى، مع استبعادها تماما الصين من المعادلة. بيد أن مصير هاتين الاتفاقيتين أصبح على المحك فى ضوء القذائف المدوية الموجهة إلى كل منها من مرشحى الحزبين، على حد سواء.

***
ويزداد الأمر خطورة عندما نرى ما يقوم به المرشحون عن الحزبين من مزايدة على بعضهم البعض لمن سيكون له الصوت الأعلى والموقف الأكثر حسما إزاء تسخير التجارة لخدمة الاقتصاد الأمريكى، وجعلها رهنا لمصلحة السوق الأمريكى، وتوفير العمالة له دون غيره. وللأسف ينطلق هؤلاء المرشحون من قاسم مشترك، ألا وهو أن سياسات تحرير التجارة عادت بالضرر على الاقتصاد الأمريكى. وعلى عكس السرد التقليدى لتحرير التجارة من قِبَل المحافظين، على اعتبار أن تحرير التجارة ضرورة أساسية لزيادة الصادرات الأمريكية وغزو الأسواق، وإيجاد فرص عمل جديدة ورفع الأجور والارتقاء بمستوى المعيشة، نجد أن ترامب ممثل الحزب الجمهورى، والأكثر حظوة بين الجمهوريين، يلوم حرية التجارة والمنافسة الدولية على أنها تقوم بسرقة فرص العمل من الأمريكيين، وينتقد انتقال كبريات الشركات الأمريكية إلى الصين وفيتنام والمكسيك بحثا عن العامل الأقل تكلفة، وهو الأمر الذى يعتبره جريمة فى حق الأمريكيين أنفسهم. أما المرشح الجمهورى كاسيك، حاكم ولاية أوهايو وهى من أكبر الولايات الصناعية فى الولايات المتحدة، فهو ينتقد منظمة التجارة العالمية واتفاقيات تحرير التجارة على أنها كانت السبب وراء إغراق السوق الأمريكى بالسلع المنافسة الرخيصة، مما أدى إلى إغلاق كثير من المصانع الأمريكية وتسريح عمالتها.

وفيما يتعلق بمرشحى الحزب الديمقراطى، كلينتون وساندرز، فإنهما يلهثان وراء دعم العمالة الأمريكية واتحادات العمال والمنظمات غير الحكومية المعنية بالبيئة وغيرها، وهى كلها جماعات تعارض تقليديا تحرير التجارة، الأمر الذى حدا بهيلارى كلينتون إلى تغيير موقفها من المؤيد لاتفاقيات تحرير التجارة إلى معارض لها، وهو لا شك مما يؤخذ عليها. وتسعى كلينتون كعادتها إلى إمساك العصا من المنتصف، فهى ترى ضرورة استخدام سياسات العصا والجزرة لإبقاء الشركات الكبرى فى الولايات المتحدة والحيلولة دون انتقالها إلى دول أخرى، وإن كان ذلك من خلال إلزام هذه الشركات بدفع الضرائب بأثر رجعى وتعويض العمالة التى يتم تسريحها.

ولا يحيد ساندرز عن مواقفه المبدئية من ضرورة رفع الأجور إلى خمسة عشر دولارا لساعة العمل الواحدة، وأهمية العودة مرة أخرى إلى سياسات الحماية، حفاظا على الاقتصاد الأمريكى. ويلقى ساندرز العبء لتراجع الاقتصاد الأمريكى وتحوله إلى اقتصاد خدمى على عاتق اتفاقيات تحرير التجارة، الذى أفقدت الاقتصاد الأمريكى تنافسيته وعملت على ضياع فرص العمل به لصالح الاقتصاديات المنافسة.

ويبدو أن إدارة أوباما غير قادرة على الوقوف أمام التيار المعارض لتحرير التجارة. ومن الملاحظ أنها أخفقت فى إعادة صياغة حوار التجارة بما يرجح الجانب الإيجابى للاتفاقيات العملاقة التى تفاوضت حولها، ويكشف عن مزاياها العديدة لصالح الاقتصاد الأمريكى، لتصبح بذلك هذه الاتفاقيات مجالا لفوز المرشح الديمقراطى وتمنحه السبق على منافسيه من الجمهوريين. وتقوم النقابات العمالية بتكثيف عدائها لقضايا تحرير التجارة وتفضح فشل المفاوض الأمريكى فى تحقيق مصلحة بلاده فى إطار هذه الاتفاقيات.

***
ولكن السؤال الذى يحيرنا جميعا الآن هو ما الذى تريده الولايات المتحدة من العالم؟ وهل يكون من حق دولة واحدة – ولو كانت القوة العظمى المنفردة – أن تغير مواقفها كل عشر سنوات لخدمة تذبذب مصالحها؟ لم يمر وقت طويل عندما كان على دول العالم أجمع الرقص على أنغام سياسات تحرير التجارة وفتح الأسواق التى كانت تتغنى بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة وامتداح المزايا التى تعود من جرائها على الجميع. فهل نحن اليوم بصدد نبذ هذه السياسات والعودة مرة أخرى إلى سياسات الحماية لتوفير العمالة للسوق الأمريكى؟ ومع الاعتراف بسيادة الولايات المتحدة كقوة عظمى، نتساءل إلى متى سيقبل العالم هذا التأرجح وفقا لهواها؟

وإذا ما استرجعنا التاريخ نجد أن الولايات المتحدة كانت وراء كل أزمة طالت العالم ككل، فكانت وراء الكساد الكبير فى الثلاثينيات وابتكارها سياسات إفقار الجار واندلاع الحرب التجارية التى دامت عشر سنوات، كان ذلك من خلال ما قام به الرئيس الأمريكى هوفر فى أواخر العشرينيات من القرن السابق، برفع التعريفة الجمركية على أكثر من ألفى سلعة بموجب ما وعد به أثناء حملته الانتخابية حماية للعاملين بالزراعة فى الولايات المتحدة، والحيلولة دون دخول السلع الزراعية منخفضة السعر، ثم قام بمدْ هذه الحماية فيما بعد ليشمل القطاع الصناعى ككل. كما كانت إدارة نيكسون فى السبعينيات من القرن الماضى هى أول من نقضت قواعد النظام التجارى الذى أرست الولايات المتحدة ركائزه بعد الحرب العالمية الثانية. وقامت إدارة نيكسون منفردة برفع التعريفة الجمركية بنسبة عشرة فى المائة، مما أوقع الضرر على حلفائها قبل خصومها. ومرة أخرى، بعد أن كانت إدارتى ريجان وبوش وراء تعظيم آلية النظام التجارى الدولى، وإنشاء منظمة التجارة العالمية، كمنظمة قوية لها قوة توقيع الجزاء على من يتراجع فى تنفيذ التزاماته، نجد أن المرشحين للرئاسة واحدا تلو الآخر يعمل على تقويض هذه المنظمة وإضعاف مكانتها، بما يكون لذلك من آثار وخيمة على النظام التجارى الدولى والاقتصاد العالمى ككل.

إن الكونجرس الأمريكى لا يرسم سياسات المجتمع الدولى، كما أن سياسات الدول غير ملزمة بتحقيق المصلحة الأمريكية ولا تخضع للبرنامج الانتخابى الأمريكى. فإن ما نحن بصدده اليوم لا يتعلق ببرنامج انتخابى، حيث إن أى تحول فى الموقف الأمريكى إزاء تحرير التجارة سيكون له تداعيات بعيدة المدى، من شأنها العودة مرة أخرى إلى حروب تجارية وكساد عالمى. ويتعين على الولايات المتحدة كقوة عظمى أن تتحمل مسئوليتها كاملة إزاء العالم. فإن العودة من جديد إلى سياسات الحماية ستؤدى حتما – لا مناص من ذلك ــ إلى دحض المبادئ التى احتكمت إليها جميع الدول بعد مفاوضات جولة أوروجواى التى استمرت أكثر من ثمانى سنوات، وأرست مبدأ اللاعودة فى تحرير التجارة التى كانت الولايات المتحدة أولى من دفعت به.
وهو ما وافقت عليه جميع الدول فى سبيل الحفاظ على النظام التجارى الدولى وعدم العودة إلى الفوضى الهدامة والمزايدة فى سياسات الحماية.

ومن المعروف أن فرص العمل لا تأتى من خلال تصعيد سياسات الحماية والحيلولة دون الاستثمار فى الدول المنافسة وإعاقة الاستفادة من العمالة الأكثر كفاءة والأقل تكلفة على مستوى العالم، ولكن توفير فرص العمل، على العكس من ذلك، تتحقق عن طريق تحرير التجارة وفتح الأسواق وإقامة التنافس العادل والتخصص وتقسيم العمل والاستفادة من سلسلة القيمة المضافة والإنتاج المشترك، وأن تصبح كل دولة ترسا فى عجلة الإنتاج الدولى.

***
لم يعد فى وسع الولايات المتحدة العودة مرة أخرى إلى سياستها الانعزالية التى اتبعتها لأكثر من مائة وخمسين سنة بعد نشأتها، كما أنه لم يعد فى وسع الولايات المتحدة فرض سياسات منفردة على نحو ما قامت به بعد سقوط الاتحاد السوفيتى. فإن من حق العالم اليوم أن يعظ الولايات المتحدة بما طالما وعظت به وفرضته على العالم.


مدير مركز الأمير الوليد بن طلال للدراسات الأمريكية والبحوث بالجامعة الأمريكية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved