البابا شنودة واستقلال القلب

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 20 مارس 2020 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

عندما كانت الإمبراطورية الرومانية (27 – 453م) تحكم العالم من أقصاه إلى أقصاه بيد من حديد، كانت مصر وكنيستها تخضع ــ بالطبع ــ لهذه الإمبراطورية، وكانت الإمبراطورية قد اعترفت بالدين المسيحى كأحد الأديان التى يرعاها الإمبراطور، وذلك فى عهد الإمبراطور قسطنطين (272 – 337م)، وحدث أن اختلفت كنيسة مصر مع كنيسة بيزنطة فى قضية لاهوتية هامة وأساسية تختص بطبيعة السيد المسيح، وهكذا تم انعقاد مجمع كنسى فى مدينة خلقدونية عام 451م (المجمع الكنسى يتكون من قيادات الكنيسة من كل العالم لمناقشة أمر عَقَدِى بغرض حسم الخلاف)، ولقد اختلفت وجهة نظر بطريرك مصر ــ فى ذلك الوقت ــ ديسقورس عن باقى البطاركة بطريرك أنطاكية وأسقف أورشليم وأسقف القسطنطينية فى حضور 230 أسقفا. وهكذا بعث الإمبراطور ثيودوسيوس إلى نائبه فى مصر قائلا: «إذا لم يوافق البطريرك المصرى ديسقورس على قرارات مجمع خلقدونية فليخرج من مدينته، وإذا وافق نجعله بطريركا وحاكما على مصر فى نفس الوقت». ورغم هذا الإغراء للبطريرك بأن يكون حاكما مدنيا ودينيا إلا أنه رفض وقرر أن يخرج من المدينة ماشيا حافى القدمين، ولا يساوم على عقيدته وهكذا ظل ديسقورس يحكم كنيسة مصر وهو متخفٍّ ومتنقل من دير إلى آخر فى صحراء مصر، وبالتالى رفض الشعب المصرى البطريرك الذى عينه الإمبراطور خلفا للبطريرك المنفى بل منعه من دخول المقر البابوى فى كنيسة الإسكندرية، وقد تجمهر الشعب مغلقين باب الكاتدرائية ليمنعوا بابا السلطة من دخول المقر البابوى لكن جنود الإمبراطور قاموا بارتكاب مذبحة رهيبة للمعترضين، وأدخلوا البابا صنيعة الإمبراطور، لكن الشعب رفض الاعتراف به والخضوع له كرئيس دينى، ومنذ ذلك الوقت أُطلق على بطريرك الكنيسة الوطنى المتمرد على الإمبراطور والهارب وصف «القبطى» نسبة إلى اسم مصر القديم، وتمييزا له عن البطريرك صنيعة الإمبراطور، واستمر هذا اللقب حتى اليوم. وتكرر نفس الصدام عام 623م عندما جلس على كرسى البطريركية بطركا جديدا اسمه بنيامين قُدر له أن يشهد فى ذلك الوقت حُكم الغزو الفارسى لمصر، لكن الفُرس لم يهتموا بأمور الكنيسة ولم يتدخلوا فيها، لكن بعد عشر سنوات عاد الحكم البيزنطى ثانية إلى مصر مرة أخرى، على يد هرقل الذى حاول بكل نفوذه أن يوحد الكنيستين وظل عشر سنوات يضطهد الكنيسة المصرية ليخضعها إلا أنها رفضت أى حل وسط يطرحه الإمبراطور الغازى، لقد تمسك الأقباط بقوميتهم المصرية أكثر من أى عقيدة أخرى، وهنا تعمقت وعلت قبطيتهم أى مصريتهم وطنا ودينا. فتمسك المصريون باستقلالهم الدينى وكأن بطريركهم «الأنبا بنيامين» أصبح فى ضميرهم نوعا من عودة الروح لاستقلالهم السياسى، وقد دُعى ذلك «استقلال فى القلب» أو «استقلال القلب» وظل تعبير أو مصطلح «استقلال القلب» هو المفتاح لمن يريد أن يستوعب التاريخ المصرى، وهكذا وجد الأنبا بنيامين نفسه لاجئا فى بلده، وراح يتنقل من دير إلى آخر فى الصعيد وكان الشعب كله معه ضد البطريرك الملكى الأجنبى، وضد الحاكم المدنى نائب الإمبراطور الجالس على العرش فى الإسكندرية، حتى جاء عَمرو بن العاص وأعاد بنيامين لكرسيه، وقبل أن أكمل حكايتى التاريخية لك ــ عزيزى القارئ ــ أقفز إلى العصر الحديث بعد ما يقرب من ألفى عام على تلك الأحداث، حيث مشهد الأقباط الذين ذهبوا إلى ليبيا ليكسبوا لقمة عيش بكرامتهم، فقبض عليهم الداعشيون وأوقفوهم فى منظر مهيب على البحر المتوسط بلباس الإعدام الأحمر، وكان الطلب الوحيد ليستردوا حريتهم ونفوسهم هو أن ينكروا قبطيتهم دينا ووطنا وهنا ظهر مرة أخرى «استقلال القلب»، الوطن والدين، وقبلوا ذبح الداعشى جون لهم، ولا شك أنهم قرأوا أو سمعوا عن التاريخ الذى قصصته لك ــ عزيزى القارئ ــ فمصر فى دمائهم بالفطرة.
*
هذا التاريخ العظيم للشعب المصرى ولفقرائه بالذات، لم يقرأه المثقفون المسيحيون المحيطون بالسادات أثناء صدامه مع البابا شنودة، فبعد أن طلب السادات من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جيمى كارتر مهندس كامب ديفيد أن يزور البابا شنودة ويقنعه بأهمية الاتفاقية مع إسرائيل، وهكذا حدث ولأول وآخر مرة فى التاريخ أن يذهب رئيس أمريكا إلى بطريرك مصر فى مقره البابوى، لكن البطريرك ظل متمسكا برأيه «استقلال القلب»، وهنا نصح موسى صبرى رئيس تحرير الأخبار والذى كان بديلا لمحمد حسنين هيكل أيام عبدالناصر السادات أن يلغى اعتماد رئيس الجمهورية على تعيين البابا شنودة كبطريرك لمصر، وأن يختار الأب «متى» المسكين بديلا له والذى يتمتع بشعبية ضخمة، وظن السادات أن هذا هو الحل العبقرى لكن عندما جلس الأب «متى» المسكين بين يدى السادات، ظهر أيضا «استقلال القلب» ورفض «متى» المسكين قائلا عندما يُختار بطريرك للكنيسة يبقى طول العمر يحكم الكنيسة سواء كان جالسا على الكرسى البابوى أو سائرا حافيا فى الصحراء مطاردا، فحيث يكون البابا يكون الكرسى البابوى، وهكذا أُسقط فى يد السادات، ولم يكن أمامه سوى اختيار لجنة من خمسة أساقفة لحكم الكنيسة، وقد تكررت هذه القصة أكثر من مرة فى التاريخ القبطى عندما يصطدم البابا مع ملك البلاد أو رئيس الجمهورية يظل البابا يحكم الكنيسة من أى مكان فى مصر، وبالفعل استمر البابا شنودة يدير شؤون الكنيسة وهو محدد الإقامة حتى بعد اغتيال السادات على يد الجماعات الإسلامية التى أخرجها من السجون ليحقق توازنا بينهم وبين شباب الجامعة الشيوعيين (على حد قوله)، لكن لم تأت الرياح بما تشتهى السفن. وجاء الرئيس الأسبق حسنى مبارك، ولم يحاول أن يكون خلاقا مبدعا أو حتى مختلفا فى سياسته، واستمر أمر البابا شنودة معلقا. فى هذه الأثناء قام مبارك بزيارة خارجية إلى الولايات المتحدة الأمريكية للمرة الأولى بعد توليه الرئاسة، فبادر البابا شنودة بتكليف الأنبا جريجوريوس أسقف البحث العلمى والأنبا موسى أسقف الشباب للذهاب مسبقا لتهدئة الأجواء مع أبناء مصر المهاجرين من المسيحيين المصريين، وناشدهم بالترحيب بالرئيس، وقد أعطت هذه المبادرة معنى أن البابا شنودة وضع مصلحة مصر أولا، ثم بدأت مبادرات من شخصيات عامة لحل موضوع البابا شنودة من أهمهم كانت مبادرة د.القس صموئيل حبيب رئيس الطائفة الإنجيلية الراحل، والذى كان من الشخصيات الوطنية العامة، وأمين فهيم رئيس مجلس إدارة جمعية الصعيد، والمرشد العام الراحل لجماعة الإخوان المسلمين غير الشرعية بالإفراج عن البابا شنودة، وعلمت من د. حبيب إن مبارك اشترط للإفراج عن البابا عدم التدخل فى السياسة ونقد قرارات الرئيس مبارك. وهكذا أصدر الرئيس السابق حسنى مبارك فى 3 يناير 1985 قرارا جمهوريا يقول «أنه بعد الاطلاع على الدستور وعلى قرار رئيس الجمهورية رقم 2782 لسنة 1971 بتعيين بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وعلى قرار رئيس الجمهورية رقم 491 لسنة 1981 بإلغاء قرار رئيس الجمهورية السابق ذكره... يعاد تعيين الأنبا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وكان البعض قد روجوا أن حسنى مبارك لم يلغ قرار الرئيس أنور السادات.
*
وهكذا استُبدل فى المكاتبات ووسائل الإعلام تعبير «علاقة الكنيسة بالدولة. بدلا من علاقة الرئيس بالبابا» فقد أصبحت العلاقة مؤسسية وهو ما حرص عليه بعد ذلك ــ الرئيس السيسى والبابا تواضروس. هذا من الجانب السياسى. أما الجانب اللاهوتى أو الدينى فى الأمر فهو ما عبر به البابا شنودة فى كلمته للرئيس مبارك بعد نجاته من محاولة الاغتيال الفاشلة فى أديس أبابا عام 1995 حيث قال له: «نؤمن بيد الله فى الأحداث، لقد كان الموت قريبا منك جدا، لكن يد الله كانت أقرب إليك منه فصدته عنك، كانت أسلحة الموت فى أيدى الناس، أما حياتك فكانت فى يد الله، ويد الله أقوى. وقد استبقاك من أجل رسالة تؤديها وستبقى حتى تؤدى رسالتك». كلمات كالعادة لا تحتاج إلى تعليق، وما نراه اليوم من علاقة الكنيسة بمؤسسة الرئاسة إنما هى نتاج لتلك العلاقة المؤسسة على الاحترام وحب الوطن، من ناحية وعلى «استقلال القلب» من الناحية الأخرى. (فى ذكرى رحيل البابا شنودة 9 مارس2012) أردت أن أشاركك ــ عزيزى القارئ ــ بهذه الخواطر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved