أمى.. قيثارة حياتى

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 20 مارس 2020 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

تزوجته صغيرة وكان أبى وحيد والديه، فأرادت تعويضهما بوفرة الأحفاد، أنجبت أطفالا كثيرين ربتهم أفضل تربية وتعليم وسقتهم من حنانها وعطفها.
تعجب كيف كانت تجهز ستة أولاد مرة واحدة للذهاب للمدارس وهى تخدمهم بدءا من الاستيقاظ والإفطار واللبس وتجهيز الشنط، فهذا يبحث عن كراسته والآخر غاضب لأنه لا يجد الكتاب، ثم تقبلهم واحدا إثر الآخر.
عشنا حياة كريمة حنونة عطوفة لم يضربنا أحد بأوامر جدتى الصارمة، كنا فى واحة من الحب والرقة.
كانت أمى غاية فى الحكمة والحلم منذ صغرها فاستطاعت أن تسوس جدى وجدتى وتخدمهما وتنال رضاهما وتستفيد منهما فى تربيتنا.
كان أبى موظفا بسيطا مرتبه فى أوائل الخمسينيات لا يجاوز خمسة جنيهات تنفذ دائما فى اليوم العاشر من الشهر، فإذا بهذه الأم العبقرية تدير البيت الكبير الشهر كله بسعة ويسر دون أن تمد يدها لأحد بل تبذل الكرم والخير لضيوفها، فقد كان لكل منا ضيوفه منذ طفولتنا.
كانت هناك حجرة «للخزين» فيها العسل والجبن والخبز بأنواعه والكشك والشعرية فضلا عن البط والأوز والدجاج والحمام، والبيض، وكان الضيف يأتى فجأة ليجد الدجاجة والطعام أمامه خلال نصف ساعة دون الاحتياج للمحلات.
أتأمل أمى وأقارنها بالزوجات الآن خريجات الجامعة التى لا يكفيها خمسة آلاف جنيه شهريا ومعها ولدان فقط، وتكون متذمرة حانقة وفاشلة فى التربية والحزم مع أولادها ودائمة التكدير لزوجها، فأقول جيل أمى كان أحكم وأعقل وأصبر وهو الجيل الذى خرج زويل ومجدى يعقوب وكمال أبو المجد وآل الباز وغيرهما.
أمى أول من علمتنى إكرام الضيف وحسن استقباله منذ صغرى، فقد كان بيتنا قبلة لأولى القربى من الريف الذين يفدون المدينة فى كل شىء، كانت أمى امرأة جامعة وصولة ومحبة للناس والحياة لا تكره أحدا، ولا تذم أحدا، وكان أبى رجلا متسامحا صوفيا عابدا، ولكن أمى كانت رائدة التجديد والتطوير فى حياتنا.
أمى أول من علمتنى كيف نكرم الفقير والمحتاج، كانت رمزا من رموز المحبة لجيرانها حتى وفاتها، ما خبزت يوما إلا وأرسلت لجاراتها بعض الخبز، ولا جاءت لنا فاكهة أو خيرات من الريف إلا ووزعت منه عليهم.
أمى قصة كفاح كبيرة، فقد مات لها ثلاثة أولاد فى أعمار مختلفة أحدهم كان فى الثانية من عمره، والثانى كان الأول على مدرسته فى الشهادة الابتدائية، توفى إثر حادث سيارة فى يوم أليم مازلت أذكره حتى اليوم، أسرة تجرى فى الشوارع لتجد ابنها ملقى على الأرض بدمائه ومغطى بأوراق الشجر، والثالث مات فى الأربعين.
كفاحها وصبرها ممتد مع امتداد حياتى فى المعتقل، ومع اعتقال زوجها وستة من أولادها كرهائن لمدة عام كامل، كانت تطوف على سجون مصر كلها وهى التى لم تعرف غير مدينتها.
حبال صبرها ممتدة وطويلة، كرمها لا نهائى استمر حتى بعد مماتها، فهذه تقول والدتكم رحمها الله أهدتنى سريرا، وأخرى اشترت لى غسالة، وثالثة تقول كانت عونا لى طوال حياتى.
قرأت مئات الكتب وكتبت آلاف المقالات ولكنى لم أصل إلى شىء من حكمتها وعميق إيمانها وتدينها الفطرى، المنتمى إلى الله وحده دون سواه، لا ينازعه انتماء لجماعة أو حزب أو أدلجة أو انتماء لشىء سوى الله.
إنه إيمان العوام الذى ملأ مصر قديما، لا يعرف اللوع أو الانتهازية أو الكراهية أو الأحقاد، إنه الإيمان الذى قال عنه حجة الإسلام الغزالى «يا ليتنى أموت على ما ماتت عليه عجائز نيسابور» وجدته فى أمى وأجده فى أختى الكبرى أم أشرف وفى شقيقى الأكبر صلاح الذى عبر القناة يوم نصر أكتوبر وكان من أبطالها.
كانت أمى فى السبعين تقوم الليل ولا أقومه وتصوم النوافل كلها ولا أصومها، تذكر الله كل يوم آلاف المرات، لا تفوتها صلاة الفجر، بيتها وقلبها يسع الجميع وأنا لا أستطيع أن أفعل شيئا من ذلك.
يمكن أن تجد عشرين شخصا يأكلون مرة واحدة فى بيتها دون أن تضيق بهم أو تضجر منهم أو لا يكفيهم الطعام، الآن أى زوجة تضيق بثلاثة ضيوف حتى لو جاءوا كل عدة أشهر، وترغى وتزيد وكأنها ستصنع القنبلة الذرية.
كان بيت أمى فى كل الحالات مملوءا بالخير والسعة، كانت لديها أكثر من ثلاجة كلها مليئة بخيرات الأرض ومستعدة لاستقبال الضيوف وجاهزة للإهداء للآخرين والإنفاق بغير حساب.
عندما ماتت أحصى أخى لديها قرابة 70 كيلو سكر فضلا عن السمن والزيت والدجاج، كانت يدها هى العليا دائما، حتى إذا أهداها أحد من أولادها شيئا ردته إلى أسرته أضعافا، وعلى هذا النهج سار معظم أشقائى وشقيقاتى، العطاء كان يمثل لها سعادة الحياة.
لم تتدخل فى حياة أحد من أولادها قط، يقول شقيقى الأكبر أ/عزت: حرمت من الإنجاب 11 عاما أنا وزوجتى، فلم تقل لى يوما تزوج على زوجتك أو طلقها، أو سألت زوجتى عن شىء أو سألتنى عن شىء أو ألحت علينا بشىء، كانت كالنسمة الرائعة التى تبث الأمل فى الجميع، يقارن بينها وبين سيدة يعرفها تزوج ابنها عاما واحدا لم ينجب فيه فتدخلت فى حياتهما طوال العام كله ثم ألزمته قهرا بتطليق زوجته ليتزوج أخرى من أجل الإنجاب.
أمى كانت كالنسمة الجميلة العابرة تهفو على الوجوه والأفئدة فترطب وحشة الحياة وتظللهم بظلها الوارف فى هجير الحياة.
كانت فى أواخر السبعين وبيتها قمة فى الترتيب والنظافة والنظام، حتى فى اليوم الذى ماتت فيه تركته كذلك.
كانت تنطق بالحكمة وما أشارت على أحد برأى إلا كان صوابا وكأنها ملهمة وذلك من كثرة إخلاصها وصدقها مع الله ومع الناس، حتى سيناريو نهاية حياتها ذكرتها بنفسها، كانت تعيش وحدها فى البيت الكبير، قالت لأولادها: سأموت دون أن يشعر أحد منكم بشىء حتى إذا جاء ابنى الأصغر مجاهدا يدق على الباب كعادته كل يوم فلا أرد، فيضطر للقفز من بيت الجيران ويفتح الباب من الداخل ويجدنى ميتة، هذا السيناريو تحقق كاملا.
إننى أرثى للأمهات الذين يربون أولادهم ثم يعيشون فى آخر حياتهم فرادى لا أنيس ولا جليس، فهذا فى آخر الدنيا خارج مصر، وهذا فى آخرها فى مصر، وتدور دوامة الحياة بهم.
إننى أذهب كطبيب فى زيارات منزلية لأمهات وآباء مسنين فأجد صحتهم فى حالة يرثى لهم وهم يعيشون وحدهم وأتألم فى نهاية الزيارة حينما أجد الباب يغلق عليهم وحدهم، والفوضى فى شققهم لا مثيل لها، الآباء والأمهات لا يتركون أولادهم فى صغرهم لحظة، ولكن الأبناء يتركونهم بسهولة ودون إحساس بالذنب، لتتكرر المأساة مع الأبناء بعد سنوات طوال، وتعود دورة الحياة الأليمة دون اعتبار أو اتعاظ.
جيل أمى كان جيلا عظيما فيه من التراحم وصلة الرحم والمحبة والتسامح والتدين الفطرى وتقدير الزوج ورعاية الأبناء والتضحيات الجسام ما فيه، عاش بالبساطة وبالرضا عن الله وعن الزوج والأولاد والحياة، لم يتسخط يوما، لم تطلب واحدة منهن الطلاق لأى صعوبة من صعوبات الحياة أو لعيب فى الزوج، لم نكن نعرف ونحن أطفال كلمة طلاق، كان جيل أمى لا يعرف غير الزوج، لم تر رجلا ولا تعرف رجلا قبل ولا بعد زوجها.
أما الآن فيؤسفنى أن الفتاة تتزوج رجلا بعد أن تكون صادقت وصاحبت وأحبت عدة شباب فى الجامعة، فتتزوج رجلا غيرهم بعد أن تمزقت مشاعرها مرات ومرات، وكل همها فى الفسح والكافيهات والخروجات والبذخ.
أبى كان يعتبر الجلوس على المقهى لغير الغرباء عار وسبه، وشرب الدخان كارثة.
رحمك الله يا أمى فقد أعطيت ما استبقيت شيئا، ومنحتينا كل شىء، وقصرنا معك فى كل شىء.
إذا كانت هناك نعم فى حياتى فأمى رحمها الله هى أجل وأعظم هذه النعم، فهى الحب الذى لا يحكى ولا يكتب وإن أفردت له مجلدات، هى أول من عرفتنى بربى، وربطتنى بالناس وعلمتنى ألفتهم ومحبتهم.
علمتنى معانى التوكل والصبر والحلم والحكمة فقد كانت نموذجا لهذه المعانى يمشى على قدمين، قرأت هذه المعانى فى الكتب كثيرا فلم أدركها بمثل ما تعلمتها منها.
اللهم اغفر لأمى فقد كانت غناى من الفقر، وعزتى من الذل، وأمنى من الخوف، ورجائى عند الله، اللهم اغفر لها ولكل الأمهات وارحمهن رحمة واسعة فالجنة حقا تحت أقدامهن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved