صُنع في مصر

كارولين كامل
كارولين كامل

آخر تحديث: الإثنين 20 مارس 2023 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

فى كل مرة أعود إلى مدينتى المحلة الكبرى، وأرافق أمى إلى المنطقة التجارية، يُدهشنى كيف غزت المنسوجات والملابس الصينية محلات مدينة الغزل الأشهر، وعلى الرغم من هذا التغيير فى نوعية المنتجات التى صار الشعب المصرى مُقبلا عليها لأسباب مختلفة، إلا أن أمى أصرت على أن يتضمن جزءا من شوار عرسى أنا وشقيقتى ملابس من أقمشة إنتاج غزل المحلة، على أن يتم تفصيلها عند الخياطة أو الترزى كما اعتدنا أن نفعل.
تربيت على ارتداء البيجاما الكستور فى الشتاء، والتى تحيكها لنا أمى بنفسها على ماكينة الخياطة «سنجر»، نشترى القماش من فرع «تعاون غزل المحلة» الملاصق للشركة ذاتها، والأزرار والخيوط من محل الخردوات، التى بالمناسبة صارت كلها الآن منتجات صينية يسافر لها الخردواتى، الذى اعتدنا أن نشترى منه كل عدة أشهر، إلى الصين لإحضار غالبية بضاعته من هناك.
اعتدت التعرف على نوعية الأقمشة الجيدة التى تناسب مناخ بلدنا، فهى تتراوح ما بين القطن والكتان والأصواف، ويُفضل أن تكون الأقمشة خالية من الألياف الصناعية، التى تقول عنها أمى «دى متنفعش عندنا فى مصر.. آه حلوة لميع وألوان.. بس حر وحساسية».
يمكن القول إن تلك الفساتين والملابس المنزلية التى حاكتها لى أمى بنفسها، والتى حاكتها لنا صديقتها الخياطة، وقطع أخرى قمنا بتفصيلها عند الترزى الذى تمتد علاقتنا به إلى ما يقرب من عشرين عاما، هى أقيم ما فى خزانتى، لقيمتها المعنوية وجودتها منقطعة النظير ومحلية صنعها.
وفى كل مرة أسافر خارج مصر ويوقعنى حظى فى منسوجات مختومة بالجملة العظيمة «صُنع فى مصر» ابتسم لأن منتجات مدينتى وبالتأكيد مدن مصرية أخرى لها هذا الوجود القيم فى الخارج، ولكن للأسف لم يحل ذلك دون غزو المنتج الصينى لمدننا بل ومنافسة منتجاتنا الأصيلة، ويقبل عليه الناس لرخص سعره مقارنة بسعر منتجهم إن كان مطروحا للتداول المحلى.
• • •
عادة أستمع إلى الراديو فى الساعات الأولى من النهار أثناء إعداد القهوة، وأتركه يصدح فى المطبخ ويصلنى همسه كونس لطيف، ولكن لسبب ما يعطل الراديو الصغير كثيرا إما لانتهاء البطارية التى لم يمر على استخدامها وقت طويل، أو لرداءة صنعه ورخص ثمنه، وعندما طلبت من والدى إصلاحه أخبرنى أن قطع الغيار لإعادته حيا مرة أخرى أغلى من سعر نظيره الجديد، وهى سمة كثير من الصناعة الصينى التى ترد بلادنا، رخص ثمنها ليس إلا «جر رجل» فهى تتلف سريعا، ويضطر الزبون أن يشتريها مرات ومرات.
وبشكل عفوى أجريت مقارنة بين جودة المُنتج الإلكترونى الألمانى ونظيره الصينى، وهى مقارنة ساذجة ولا تستقيم بالطبع، إلا أن أبى أخبرنى أن الراديو المصرى بالإمكانيات المتاحة حينها لتصنيعه لم يكن يقل جودة عن نظيره الأجنبى، والدليل أن راديو «تليمصر» الأحمر الخاص بجدتى لا يزال يعمل حتى الآن على الرغم من أن مؤشره لا يلتقط سوى محطتين، إحداهما إذاعة القرآن الكريم، والأخرى محطة أغانى، إلا أنه يشدو بصوت نقى واضح لا يجاريه الصينى الجديد.
أفتش عن المنتجات التى تحمل ملصق «صُنع فى مصر»، سواء منسوجات أو جلد وفخار، وحتى بعض الأدوات المكتبية، وأدعم المشاريع الصغيرة للمنتجات اليدوية وأشترى منها كلما استطعت، وفى إحدى المرات دخلت منفذ بيع «شركة النصر للزجاج والبلور» بمنطقة وسط البلد بعد أن لفت نظرى معروضات الفاترينة من الزجاج السادة غير المنقوش وهو ما صار نادرا الآن، وفاجأنى البائع أن جميع المعروضات مصرية الصنع وتعد من النوع الفاخر لجودة الرمل المستخدم فيها.
أخبرنى أن المعروض هو آخر ما تبقى فى مخازنهم، لأن الزبائن صارت تفضل المنتجات المبهرجة وارد الصين، يومها خرجت بكرتونة ممتلئة بالكامل، وأتذكر كيف تعجب البائع من شرائى كل هذه الكمية، لأن زبائنهم على حد قوله أكبر منى فى السن، وبالفعل بعد وقت قصير اختفت تلك المصنوعات من الفاترينة، وتغير شكل منفذ البيع بالكامل.
• • •
كالعادة سوف تتخلل حكاياتى مقتطفات من الكنوز التى اشتريها من «سوق ديانا»، هذه المرة كان ملف ورقى مهترئ قليلا يضم مقصوصات من ستين عددا لجريدة الأهرام الصادرة عام ١٩٧٢ معنونة بـ«ماذا تعرف عن إنتاج بلدك والخدمات المتاحة فيها»، وتوضح الجريدة أن هذا الباب هو «مسابقة الأهرام ولمدة ٦٠ يوما معلومات ثقافية عن نشاط الوحدات الاقتصادية فى مصر» على أن يستعد القارئ لإجابة أسئلة المسابقة التى سيتم نشرها، والحصول على جوائز نقدية وعينية من منتجات مختلفة مُقدمة من شركات مصرية.
بإيجاز تتمثل الجوائز مصرية الصنع فى «أجهزة تلفزيون وراديو/ سجاجيد تبريزى وشيرازى/ منسوجات ومفروشات قطنية/ ملابس قطنية/ رحلات سياحية خارج مصر على بواخر تابعة لشركات مصرية/ منتجات من البلاستيك والميلامين/ بطاريات جافة وسائلة لكافة المركبات/ منتجات غذائية.. وغيرها».
وتستعرض القصاصات صناعات أخرى مصرية تنافس عالميا على رأسها السيارات «نصر»، وكافة المصنوعات الخشبية فى دمياط، وأحبار الكتابة، وكماليات كهربائية مثل الفيش وغيرها، إطارات سيارات، والصفيح المستخدم فى معلبات الصناعات الغذائية، وحبال الصلب المستخدمة فى الأوناش والأسانسيرات، والمراجل البخارية وأوعية الضغط، والشوايات التى تعمل بالكهرباء والبوتاجاز والفحم، بينما احتلت السجائر المصرية عددا لا بأس به من الإعلانات.
أعيد تقليب الملف مرات ومرات لأرى منتجاتنا المحلية، وأستمتع بالصور التى مزجت بين الفوتوغرافيا والرسم، فبدت الجريدة وكأنها مجلة مُتقنة التصميم، ومع كل منتج يظهر اسم الشركة المصنعة ومكانها، فكانت المصانع موزعة على جميع الجمهورية تفتخر بمنتجاتها «دمنهور/ كفر الدوار/ بنها/ الإسكندرية/ طنطا/ المحلة/ دمياط/ ميت غمر/ زفتى/ بنى سويف»، فبدت مصر وكأنها ماكينة عملاقة تدور تروسها مُكملة بعضها البعض.
أحب صناعتنا المحلية لبعض المنتجات التى حافظت على جودتها، وهى شحيحة جدا، وبالنسبة لشخص مثلى لا أميل إلى المنتجات الصينية لأنها تستخف بنا، خاصة أنها تحاول أن تثبت لى أنى إما قوية البنية أو شديدة العصبية، للدرجة التى تجعل الكثير من الأشياء تتحطم بسهولة بين يدى، فاحتال عليها بتجبيرها وأستخدمها حتى الرمق الأخير من عمرها، وهذا حتى أجد منتجا محليا مصريا بديلا يحتمل قوتنا أو عصبيتنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved