التضخم الجامح وحدود السيطرة عليه

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 20 مارس 2023 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

يقول الفيلسوف الإغريقى «هرقليطس»: إنك لا تغمس قدمك فى النهر ذاته مرتين.. وتقول معظم السلع والخدمات فى عالم اليوم: إنك لا يمكن أن تشترينا بذات الثمن مرتين.. هذا فى مفهوم الاقتصاد ما يعرف بالتضخم الجامح. تضخم الأسعار هو الضريبة التى يدفعها الجميع، يتحملها الفقراء والأغنياء بغير تمييز؛ الفقير يجد نفسه غير قادر على شراء السلع والخدمات التى اعتاد توفيرها بصعوبة بأسعار أقل، ومن ثم يتعرّض إلى مخاطر النزول تحت خط الفقر، بحيث لا يمكنه تدبير احتياجاته الأساسية، ويصبح عبئا كبيرا على المجتمع. أما الأغنياء فمن المحتمل أن ينقلهم التضخم إلى طبقة اجتماعية أدنى، ويساهم فى تمريرهم لمزيد من المعاناة إلى الطبقات الأدنى، التى تعتمد عليهم فى إتاحة الوظائف وفرص العمل، أو حتى المساعدات الاجتماعية.
لأن التضخم يتأثر بنوعين من العوامل أحدهما يتصل بجانب الطلب والآخر يتصل بجانب العرض، فإن التعامل معه تحفّه الكثير من المخاطر، لأن السياسات المستخدمة لاحتواء معدلات التضخم المرتفعة الناتجة عن صدمات جانب الطلب ستؤدى حتما إلى الإضرار بجانب العرض والعكس صحيح. للتبسيط على غير المختصين، فإذا تصورنا أن ارتفاع المستوى العام للأسعار (المسمّى بالتضخم) قد نتج عن زيادة المعروض النقدى فى الأسواق، أى إنه قد نتج عن زيادة طباعة النقود (مثلا) بشكل يفوق حجم السلع والخدمات التى ينتجها المجتمع أو يستوردها، ويتعدى قيمة أى غطاء لتلك الطباعة بنسب كبيرة. فى هذه الحال يتحوّل البنكنوت الفائض إلى ورق أقل قيمة؛ لأنه يتنافس على منتجات محدودة، وكنتيجة طبيعية لزيادة العرض عن الطلب، فإن المنتجات ترتفع أسعارها بشكل عام، عندها يقوم البنك المركزى بصفته المسئول عن السياسة النقدية فى الدولة، باتباع سياسة انكماشية، التى من أبرز أدواتها رفع أسعار الفائدة بغرض امتصاص فائض السيولة فى الأسواق.
كذلك يمارس البنك المركزى سياسات أخرى منها عمليات السوق المفتوحة، التى يدخل من خلالها بائعا لبعض الأصول التى فى حوزته، بذات الغرض، وهو امتصاص فائض المعروض النقدى. وأحيانا يتدخل المركزى بشكل مباشر لجمع فائض السيولة من البنوك، كما فعل البنك المركزى المصرى بإدارته الجديدة، لتصحيح بعض أخطاء الإدارة السابقة، من خلال جمع نحو 800 مليار جنيه من البنوك المصرية، مقابل هامش من المكسب لتلك البنوك.
• • •
عندما يقوم البنك المركزى باتباع تلك السياسة الانكماشية، والتى يواكبها عادة انكماش السياسة المالية، عبر تدابير أخرى منها زيادة الضرائب والرسوم وترشيد الإنفاق العام، فإن جانب العرض فى الأسواق يتضرر بشدة، ويتمثّل جانب العرض هنا فى المنتجين والمستوردين للسلع والخدمات. مناط الضرر يمكن إيضاحه بمثال مبسّط، حيث يلجأ المنتجون إلى البنوك لاقتراض الأموال بغرض الاستثمار لزيادة الإنتاج، سواء بالتوسّع وشراء الآلات والمعدات، أو من خلال تدبير رأسمال عامل، يساعد المنشأة على تمويل دورة الأعمال، وما يترتب عليه ذلك من زيادة وتحسين جودة الإنتاج، وتوفير فرص العمل أو فى القليل المحافظة عليها. لكن اللجوء إلى المصارف يعنى تحمّل المنشأة لأسعار فائدة مرتفعة نسبيا نتيجة للتشديد النقدى (أو رفع الفائدة) الذى تبنّاه المركزى لمحاصرة التضخم الناتج عن صدمة فى جانب الطلب كما تقدّمت الإشارة. كذلك ترتفع تكلفة سائر بدائل التمويل ومنها التمويل الذاتى أو باللجوء إلى شريك استثمارى، وذلك لأن الفائدة المرتفعة على الودائع وشهادات الادخار فى البنوك سترفع من تكلفة الفرصة البديلة لهذا النوع من التمويل، أى إن المستثمر سوف يقارن العائد على الاستثمار الصناعى مثلا بالعائد على شهادات الادخار، ويفضّل العائد على الأخيرة خاصة مع خلوّها تقريبا من المخاطر التى يتعرّض لها النشاط الإنتاجى بطبيعته. أيضا السياسة المالية الانكماشية فتضر بالأسواق، لأنها تخفّض من الطلب العام على السلع والخدمات، فتتعرّض الأسواق لفرص الكساد، وتتراجع فرص التشغيل، وترتفع معدلات البطالة.
عندئذ تزداد فرص تعزيز التضخم بروافد من جانب العرض، لأن تضرر الإنتاج بفعل ارتفاع تكاليف التمويل (كأحد أبرز العوامل) من شأنه أن يمثّل صدمة فى المعروض السلعى والخدمى ــ هذه المرة ــ وليس المعروض النقدى، إذ إن التراجع فى حجم السلع والخدمات المتاحة بالأسواق يعنى شحّها ومن ثم ارتفاع (أى تضخم) أسعارها. إذن من الأهمية بمكان أن يميّز صانع السياسة الاقتصادية بين طائفتى الصدمات فى جانبى العرض والطلب كبداية لتشخيص التضخم، ثم من الضرورى أن يأخذ فى الاعتبار أهمية المواءمة بين سياسات الاحتواء الضرورية، وتلك التى ينشأ عنها أضرار فى الجانب الآخر من المعادلة التوازنية فى الأسواق.
أيضا لابد من فهم طبيعة القيد الزمنى على صانع السياسة الاقتصادية، لأنه فى الأجل القصير جدا قد لا يملك البنك المركزى غير رفع أسعار الفائدة لاحتواء التضخم، حتى ولو كان صانع القرار على يقين من أن ذلك التضخم مشفوع بصدمات فى جانب العرض، ومدار تأثره هو اضطراب سلاسل الإمداد وارتفاع تكلفة الاستيراد نتيجة تقلبات سعر الصرف.. كما هى الحال فى صدماتنا التضخمية الأخيرة. السبب فى ذلك يمكن إرجاعه إلى كون أى تضخم فى الأسعار لا يخلو من نسبة ما تتصل بجانب الطلب وأخرى بالعرض، ومن ثم ليس ثمة ارتفاع مزمن فى الأسعار لا يتسبب فيه (ولو جزئيا) زيادة فى المعروض النقدى عن الحد التوازنى. كذلك فإن صانع السياسة النقدية ومتخذ قراراتها عادة لا يملك فى الأجل القصير أداة أنجع أو أسرع تأثيرا على التضخم من أسعار الفائدة وعدد من عمليات السوق المفتوحة، فإذا كانت مرونة أسعار الفائدة للادخار أعلى منها للاستثمار، فإن رفع الفائدة يكون هو الحل الأمثل.
• • •
ولفهم فكرة المرونات، علينا أن نتخيل أن بعض البنوك أصدرت شهادة ادخار بعائد كبير وبعضها قدّم تسهيلات ائتمانية بفائدة منخفضة، ونتصور كيف يتحرك المودعون والمقترضون فى الحالتين. فى الغالب سيكون توافد المودعين على البنوك للاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة أكبر نسبيا من تهافت المستثمرين عل القروض، خاصة أن إجراءات المصارف فى منح القروض أو حتى مد الاستفادة من المبادرات إلى المستثمرين المحتملين، هى فى الغالب إجراءات معقّدة وطويلة، ولا تصل إلى مختلف الشرائح المستحقة.
أيضا هناك عوامل مختلفة تحد من استفادة قطاع الأعمال (العام والخاص) فى أى دولة من مزايا التمويل الميسّر، ومنها تفضيل البنوك لشراء الدين الحكومى الخالى من المخاطر بأعلى عائد على الدين! وهذا فى ذاته أحد روافد التضخم المعزز بصدمات الطلب، لأن الحكومة عادة ما تلجأ إلى سداد التزاماتها من الديون المحلية، عبر حض البنك المركزى على طباعة البنكنوت الجديد الذى لا تدعمه أى منتجات فى الاقتصاد العينى.
هناك معادلة شهيرة للاقتصادى «فيشر» سميت باسمه كونه ابتكرها لتوضيح العلاقة بين المعروض النقدى من ناحية والمستوى العام للأسعار من ناحية أخرى. مفاد تلك المعادلة هو أن الأجل القصير الذى لا يسمح بزيادة المعاملات فى الاقتصاد، ولا يأخذ فى الاعتبار سرعة تداول النقود، يمرر أى زيادة فى عرض النقود لتتحوّل بشكل مباشر إلى زيادة فى المستوى العام للأسعار. كل الاقتصاديين يعرفون تلك المعادلة، ومن العبث الاستمرار فى طباعة البنكنوت دون التأكد من عجز المزيد منها على شراء السلع والخدمات. وعند كتابة هذه السطور مازالت التكهنات تعصف بالأسواق فيما سوف يكون عليه قرار البنك المركزى المصرى، لاحتواء معدلات التضخم الجامحة، أو ملاحقة الدولار الأمريكى الذى ما زالت قيمته ترتفع أمام الجنيه فى السوق الموازية بوتيرة أسرع من السوق الرسمية.
لا بديل عن مزيد من الرفع فى أسعار الفائدة أو إصدار أوعية ادخارية بأسعار فائدة استثنائية (شهادات ادخار بأسعار فائدة لا تقل عن 25% مثلا) وذلك (كما سبق التأكيد) فى الأجل القصير ولحين هدوء انفلات التضخم. يقابل هذا لمساعدة الاستثمار على تخطّى مخاطر التشديد النقدى، إتاحة بدائل لتمويل المشروعات الإنتاجية (الزراعية والصناعية على وجه الخصوص) بتسهيلات وأسعار فائدة وفترات سماح جاذبة للاستثمار، بغرض معادلة الأثر السلبى لأسعار الفائدة المرتفعة على الإقراض. كما يجب أن تلجأ الدولة إلى ضبط الأسواق لمنع الممارسات الاحتكارية وتشديد العقوبة عليها، ومنع الدولرة (والتى تعنى استخدام العملة الصعبة لإتمام أى نوع من الصفقات داخل القطر المصرى) وإحكام السيطرة على الأسواق لحماية المستهلك ومنع التجّار من حجب السلع والمغالاة فى رفع الأسعار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved