الصين صانع سلام

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 20 مارس 2023 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

واثقة الخطى، تمضى الصين على درب إتمام ترسيخ دعائم قوتها الوطنية الشاملة. فبموازاة مساعيها الحثيثة، للوصول بقدراتها الاقتصادية، والعسكرية، والتكنولوجية، إلى صدارة التصنيف العالمى؛ تأبى بكين إلا تفعيل قوتها الناعمة، وتعزيزحضورها الدبلوماسى النشط فى شتى البقاع. وتوخيا لذلك المقصد، انبرت فى التخلى عن سياسة «النأى عن بؤر التوترات والصراعات»، وطفقت تطلق وساطاتها ومساعيها الحميدة، ابتغاء حلحلة النزاعات الإقليمية، وتسوية الأزمات الدولية.
قبل عقدين مضيا من الزمن، لاحت جهود الصين الطموحة للعب دور «صانع السلام» العالمى. حيث أطلقت محادثات سداسية، شملت الولايات المتحدة، بهدف معالجة المخاوف المنبعثة من برنامج الأسلحة النووية لكوريا الشمالية، مقابل إغداق المساعدات الاقتصادية على الأخيرة. لكن المحادثات، وصلت إلى طريق مسدود فى عام 2008، بعدما انسحبت منها بيونج يانج.
إبان افتتاح المؤتمر السنوى لمنتدى «بواو» الآسيوى، فى أبريل الماضى، أعلن الرئيس الصينى «شى جينبينغ»، رؤية بلاده بشأن «مبادرة الأمن العالمى». تلك التى تهدف إلى دعم مبدأ «الأمن غيرالقابل للتجزئة»، عبر تحديد مفاهيم، وأسس، وآليات استعادة الأمن والسلام العالميين. من خلال التزامات دولية ستة، تجسد رؤية الأمن المشترك، والشامل، والتعاونى، والمستدام. وتدور حول احترام سيادة ووحدة أراضى جميع البلدان، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية. والتمسك بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ورفض عقلية الحرب الباردة، ونبذ الأحادية، وسياسات توسيع التحالفات الاستراتيجية، سواء فى أوروبا، أو منطقة الإندو ــ باسيفيك. والتكاتف فى مواجهة التحديات العالمية؛ مثل: الإرهاب، وتغير المناخ، والأمنين، السيبرانى، والبيولوجى.
فى يونيو الماضى، استضافت العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، «مؤتمرالسلام والحوكمة والتنمية بين الصين والقرن الإفريقى». وخلاله، أعلنت بكين، تفعيل إحدى أدواتها الدبلوماسية، المتمثلة فى الوساطة السياسية، لتسوية الأزمات والنزاعات، التى تعصف بدول الإقليم. مثل النزاع السودانى ــ الإثيوبى حول الفشقة، والمواجهات المسلحة بين حكومة آبى أحمد وجبهة تحرير تيجراى. الأمر الذى اعتبره المبعوث الصينى لمنطقة القرن الإفريقى، انعطافة صينية استراتيجية صوب لعب دور عالمى، يتجاوز التجارة والاستثمارات، ليطال الأمن، والسلام، والتنمية.
مع حلول الذكرى السنوية الأولى للحرب الروسية ــ الأوكرانية، كشفت الصين، يوم 24 فبراير الفائت، عن وثيقة تسوية للأزمة، تنطوى على 12 بندا. تتضمن التأكيد على احترام سيادة الدول، واستقلالها، ووحدة أراضيها. والتخلى عن عقلية الحرب الباردة، وألا يكون ضمان أمن دولة على حساب أمن الآخرين، أو توسيع التكتلات العسكرية. وأن تُؤخذ المصالح والمخاوف الأمنية لكل الدول على محمل الجد، وتُعالج بصورة صحيحة. وقف الأعمال العدائية، واستعادة الحوار المباشر، لخفض التصعيد، وصولا إلى وقف شامل لإطلاق النار. إيجاد حل للأزمة الإنسانية، على أساس الحياد، وعدم التسييس، وحماية سلامة المدنيين. ووضع آلية لتبادل أسرى الحرب، بموجب القانون الدولى الإنسانى. والحفاظ على سلامة المنشآت النووية السلمية، والالتزام بمعاهدة الأمان النووى، ودعم دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية. عدم استخدام أسلحة الدمارالشامل، أو التهديد بذلك. مواصلة تصدير الحبوب، عبر المبادرة الموقعة بين روسيا، وأوكرانيا، وتركيا، والأمم المتحدة. وقف العقوبات الأحادية. العمل على استقرار سلاسل الإنتاج والتوريد، ومعارضة استخدام الاقتصاد كأداة سياسية. وإعادة الإعمار فى المناطق المتضررة من الحرب.
متوسلة استثمار زخم نجاح وساطتها بين السعودية وإيران، عمدت بكين إلى معاودة العمل على نزع فتيل الحرب الروسية ــ الأوكرانية. ففى مكالمة هاتفية، حضَّ وزير الخارجية الصينى نظيره الأوكرانى على استئناف التفاوض، فى أقرب وقت، من أجل إدراك السلام. وبينما يقوم الرئيس الصينى، حاليا، بزيارة لموسكو، لا يتورع عن إجراء مباحثات افتراضية، هى الأولى من نوعها منذ اندلاع المواجهات، مع نظيره الأوكرانى. وهى المبادرات، التى قوبلت بترحاب أمريكى لافت.
استثمارا لرغبتيهما فى حل خلافاتهما من خلال الحوار، استضافت بكين، سرا، مباحثات بين وفدى الرياض وطهران، خلال الفترة من السادس إلى العاشر من مارس الحالى. وبرعاية صينية، اتفق أهم شريكين تجاريين خليجيين لبكين، فى العاشر من الشهر الحالى، تزامنا مع إعادة انتخاب، شى جين بينج، رئيسا صينيا لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات، على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما، فى غضون شهرين. كما أكدا على احترام سيادة الدول، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية. وأن يعقد وزيرا خارجية البلدين اجتماعا لتفعيل ذلك، وترتيب تبادل السفراء، ومناقشة سبل تعزيز العلاقات. فضلا عن تفعيل معاهدة العام 2001، بشأن التعاون الأمنى، والاتفاقية العامة للتعاون فى مجالات الاقتصاد، والتجارة، والاستثمار، والتقنية، والعلوم، والثقافة، والرياضة، والشباب، المبرمة عام 1998.
تلاقت التعهدات الواردة فى البيان السعودى ــ الإيرانى، مع وثيقة سياسات الصين العربية»، الصادرة مطلع عام 2016. والتى حددت خمسة مبادئ أساسية للتعامل مع دول المنطقة، التى تزودها بنصف احتياجاتها الطاقوية، تجلت فى: الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضى، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، ومراعاة المساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمى. وكأننا بصدد مقاربة صينية كونية جديدة، تستهدف حلحلة النزاعات الدولية. كما تنحو نحوا مغايرا، لاستراتيجية واشنطن القائمة على إدارة الصراعات، عبر افتعال الأزمات وتأجيج النزاعات. مع فرض الاشتراطات والتعهدات الأمنية، إضافة إلى الالتزامات المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وما تستتبعه من تدابير رقابية، تسوغ، بدورها، التموضع العسكرى الأمريكى فى مناطق النزاعات.
بعيد أيام من توقيع الاتفاق، الذى أحدث اختراقا فى العلاقات السعودية ــ الإيرانية، أكد الرئيس الصينى، اعتزام بلاده الاضطلاع بدور أكبر فى إدارة الشئون العالمية. عبر المشاركة الفاعلة فى إصلاح، وبناء نظام الحوكمة الكونى، وتعزيز مبادرات السلام والتنمية حول العالم. وفى خطاب مفعم بالمصطلحات القومية، دعا، شى، إلى تسريع وتيرة التطويرالتكنولوجى، وترسيخ الاعتماد على الذات. وشدد، ثمانى مرات، على فكرة «التجديد الوطنى»، أو إعادة الصين إلى مكانتها الصحيحة، بوصفها قوة عظمى، على مختلف الأصعدة.
إبان جولة شرق أوسطية، زار خلالها إسرائيل، وفلسطين، والسعودية، فى يوليو الماضى، أعلن الرئيس الأمريكى، جو بايدن، أن بلاده «لن تبتعد وتترك فراغا كى تملأه الصين، أو روسيا، أو إيران». بيد أن انكماش الحضور الجيواستراتيجى الأمريكى شرق أوسطيا، لصالح تعزيزه فى منطقة الإندو ــ باسيفيك، خلال الآونة الأخيرة، ترك فراغا جيوسياسيا، مغريا للتطلعات الروسية والصينة. كما لفاعلين إقليميين مثل؛ تركيا، وإيران، وإسرائيل. الأمر الذى وضح جليا فى الانجاز الدبلوماسى الصينى، الذى ما كان له أن يتحقق، لولا موثوقية بكين المتفاقمة لدى الرياض وطهران. والتى عبرعنها مسئولو البلدين، بتأكيدهم على أن الصين مساهم رئيس فى أمن واستقرار منطقة الخليج.
تتوجس واشنطن خيفة من زحف الصين باتجاه توظيف قوتيها الخشنة والناعمة، لتعزيز قوتها الذكية المتمثلة فى لعب دور «صانع السلام» العالمى. بما يخولها استغلال الفراغ الجيواستراتيجى الناجم عن التوجه الأمريكى آسيويا، بغية تعظيم حظوظ بكين فى أسواق وموارد، المنطقة الخليجية، التى تشكل عنصرا محوريا فى الأمن الاقتصادى الصينى. علاوة على إنجاح مساعيها الرامية إلى طى صفحة الهيمنة الأمريكية الأحادية على الكوكب، وإرساء دعائم نظام عالمى متعدد الأقطاب. فضلا عن التصدى للتوجه الأمريكى، الذى ارتآه الرئيس، شى جين بينج، حملة، أقرب إلى حرب باردة جديدة، تقودها واشنطن، بغرض الاحتواء الشامل للصين، وتطويقها وقمعها.
لا تخفى واشنطن قلقها من أن يؤسس الحضور الاقتصادى الطاغى، والنشاط الدبلوماسى المتنامى لبكين فى منطقة الشرق الأوسط، لتموضع عسكرى صينى فى القادم من الأيام. فمن خلال بلورة مبادرات أمنية، وتدشين شراكات استراتيجية، سيتسنى للتنين الأصفر موطئ قدم استراتيجى ببقعة ظلت، طيلة عقود سبعة خلت، منطقة نفوذ أمريكى خالص. لاسيما أن هناك سوابق صينية تفاقم ذلك القلق. ففى عام 2017، أنشأت بكين أولى قواعدها العسكرية خارج حدودها، فى جيبوتى، بذريعة تأمين الدعم اللوجستى لقوات حفظ السلام الصينية، المتمركزة قبالة سواحل الصومال، وتوفير الحماية للمساعدات الإنسانية الأممية المخصصة لدول المنطقة. وفى أغسطس من العام 2020، أفزعت واشنطن وحلفاؤها، بتوقيعها اتفاق تعاون استراتيجى مع إيران، يمتد لربع قرن، ويتضمن تنسيقا عسكريا جويا وبحريا، كاملا بين الجانبين. وفى أبريل الماضى، أبرمت الصين معاهدة للصداقة مع، جزر سليمان. تنطوى على مقترحات تجيز نشر قوات من الشرطة والبحرية الصينيتين، فى الأرخبيل الباسيفيكى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved