هل حقا.. انهار كل شىء؟

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: السبت 20 أبريل 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

هذه رواية كانت من أحب الروايات إلىّ عندما قرأتها لأول مرة فى 1973، ولازلت أعتبرها كذلك بعد مرور أربعين عاما. عندما أستعيد وقائعها فى ذهنى، وكيفية تناول المؤلف لها، أتفهم تماما سر تأثيرها الطاغى علىّ وعلى ملايين القراء من مختلف أنحاء العالم. فقد بيع من الرواية، منذ صدورها فى 1958، أكثر من عشرة ملايين نسخة، وتُرجمت إلى خمسين لغة ونشرت إحدى طباعتها فى سلسلة Everyman.s التى تنشر فقط أهم الأعمال الكلاسيكية فى مختلف آداب العالم.

 

الرواية كُتبت أصلا بالانجليزية واسمها Things Fall Apart الذى يمكن أن يُترجم إلى «عندما ينهار كل شىء» أو «عندما تتداعى الأشياء». والمؤلف نيجيرى «شنوا أشيبى» Chinua Achebe، الذى رددت وسائل الإعلام فى العالم كله نبأ وفاته فى الشهر الماضى.

 

صدرت الرواية قبل حصول نيجيريا على استقلالها من الانجليز بسنتين، وقصتها تدور حول محنة قبيلة نيجيرية عندما تغزوها ثقافة «أو حضارة» مختلفة تماما، وتهزمها بقوة السلاح، وإن كانت هذه الثقافة الغازية مسلحة أيضا ببعض الأفكار منها التبشير بالمسيحية. و«انهيار كل شىء» الذى يشير إليه اسم الرواية، هو بالضبط انهيار ثقافة «أو حضارة» بأكملها أمام الغزو الثقافى«أو الحضارى» الغربى.

 

ينفق الكاتب أكثر من نصف الكتاب فى وصف هذا الجانب أو ذاك من حياة القبيلة النيجيرية: عاداتها وعلاقاتها الاجتماعية، ما تؤمن به وما تخاف منه، الصفات التى تقدّرها والصفات التى تحترقها، ما يعتبر لديها عارا وما يعتبر سببا للفخر، ماذا تأكل وماذا تشرب، علاقة النساء بالرجال، خرافاتها وأساطيرها.. الخ

 

الكاتب يروى كل ذلك بأسلوب شائق طبعا، ولكن هذا الجزء الأول من الكتاب لا يحمل فى طياته أى قصة بعد. الغرض من هذا الجزء هو أن «يقنع» القارئ بهذه القبيلة، أى أن يجعلك تتبين الدور الذى يلعبه كل جزء من أجزاء هذه «الثقافة» فى تحقيق تماسك الثقافة ككل، فتعطى للحياة معنى، وللقبيلة تفردها وشخصيتها، ولأفرادها مصدرا للثقة بأنفسهم ومجتمعهم، وتجعل التضحية من جانب بعض أفرادها، إذا كانت التضحية مفيدة ولازمة لبقاء القبيلة، ضرورية ومبررة. بعبارة واحدة: كل جزء من أجزاء هذه الثقافة يضمن لهذه القبيلة البقاء والاستمرار، ولا يمكن أن نفهم أى جزء من هذه الأجزاء إلا فى علاقته بغيره.

 

هكذا ينفق المؤلف أكثر من نصف الرواية حتى يقنعك تماما بهذه الثقافة ويجعلك تتعاطف معها بل وتحبها.

 

ثم تبدأ المأساة. فزعيم هذه القبيلة «أوكونكو» له ابن وبنت. البنت تتجسد فيها كل الصفات التى يحبها أوكونكو ويقدرها. لقد ورثت عن أبيها صلابته وقوة إرادته، وهى عطوف على أهلها وعشيرتها دون ضعف. ولكن الابن ضعيف قليل الحيلة، باهت الشخصية، ليس فيه شىء من صلابة الأب أو قوته الجسمانية أو عناده أو صبره وجلده على الشدائد. ما الذى يجعل الابن يخون قبيلته وأباه، ويفتح الباب للأجانب لتغزو قبيلته وتدميرها؟ لا نعرف بالضبط أيا كانت السبب فإنه عندما يأتى المبشرون بدين أجنبى وغريب عن معتقدات القبيلة، ينضم الابن إليهم. لا يصدق الأب هذا ويكاد يجن جنونه: «أينضم ابنه إلى أعداء القبيلة التى لا يريدون لها إلا الخراب؟» ولكن الابن مصمم، والمبشرون، ووراءهم حملة البنادق الذين يريدون الاستيلاء على أرض القبيلة وخيراتها، يقوون ظهره، ويغسلون مخه، ويوهمونه بأنه بانضمامه إليهم ضد أبيه وعشيرته إنما ينتصر للإنسانية ككل!

 

لا عجب إذن فى اختيار هذا الاسم للرواية «عندما ينهار كل شىء»، فقد انهار بالفعل كل شىء فى تلك القبيلة النيجيرية، حتى انتهت بقيام ذلك البطل الشجاع «أوكونكو» بقتل نفسه.

 

من بين ما نشر بعد وفاة شنوا أشيبى مؤلف الرواية قوله، إنه يكون راضيا تماما عن نفسه لو أنه لم يفعل فى حياته أكثر من أنه أقنع قراءه الأفريقيين «بأن ماضيهم، رغم كل نواقصه، لم يكن ليلا واحدا طويلا من الهمجية حتى جاء الأوروبيون لينتشلوهم منها نيابة عن الله».

 

●●●

 

بعد ظهور رواية أشيبى بثمانى سنوات «أى فى 1966» ظهرت رواية أخرى بالغة الجمال، وبنفس القوة والفصاحة والفن الخلاب الرواية هذه المرة عربية وهى «موسم الهجرة إلى الشمال»، والكاتب سودانى «الطيب صالح» الذى توفاه الله منذ عامين. واسم الرواية يشى هذه المرة أيضا بمضمونها، إذ إن المحنة التى أدت إلى «انهيار كل شىء» هو ذلك الميل الكاسح «للهجرة إلى الشمال». البطل يقتل نفسه فى نهاية الرواية الأولى، والبطل فى الرواية الثانية ينتهى بإلقاء نفسه فى النهر للخلاص من محنته، والراجح أنه لم يستطع أو لم يرد إنقاذ نفسه.

 

لقد حازت رواية الطيب صالح أيضا شهرة ونجاحا فائقين وبيع منها ملايين النسخ، وترجمت إلى لغات عديدة، ولاتزال تعاد طباعتها وتقبل الأجيال الجديدة على قراءتها. وفيها يصف الطيب صالح نمط حياة «أو ثقافة» قرية صغيرة على ضفاف النيل فى شمال السودان، وصفا يدفعك دفعا للوقوع فى حبها. يصف الراوى جده العجوز فى رواية الطيب صالح بقوله: «حين أعانقه أستنشق رائحته الفريدة التى هى خليط من رائحة الضريح الكبير فى المقبرة ورائحة الطفل الرضيع.. نحن بمقاييس العالم الصناعى الأوروبى فلاحون فقراء، ولكننى حين أعانق جدى أحس بالغنى، كأنى نغمة من دقات قلب الكون نفسه».. ومع هذا فهذا الجد العظيم محدود القدرات والمعرفة، ومن أصعب الأمور أن يتأقلم مع الجديد.

 

●●●

 

المشكلة كما ترى ليست هينة. فإذا ثار فى نفسك الشك فى ذلك فلتنظر إلى ما حدث للدولتين نيجيريا والسودان بعد مرور نصف قرن على ظهور الروايتين، «بل وانظر ما حدث فى معظم البلاد الأفريقية والآسيوية الأخرى التى خضعت لنفس المحنة». ماذا حدث لنيجيريا والسودان «بل ولمصر أيضا» بعد حصولها على الاستقلال؟ لقد ظننا جميعا، لفترة وجيزة بعد الاستقلال، أن الاستقلال سوف يحل، من بين ما سيحله من مشكلات، مشكلة الالتقاء بين الحضارات، أو مشكلة الهوية. ولكن ظهر للأسف أن ما حدث بعد الاستقلال لم يحل المشكلة بل زادها تعقيدا. فبعد أن انسحبت جيوش الاحتلال جاء استعمار من نوعه جديد، لم نتمتع فيه بحريتنا فى اختيار ما نأخذ وما نرفض من الغرب. اتخذ هذا الاستعمار الجديد أحيانا صورة انقلابات عسكرية يتلقى القائمون بها التعليمات من دولة أجنبية أو أخرى، وإن تظاهروا باستقلال الإرادة. ثم حلت محل النظم العسكرية نظم مدنية تظاهرت أيضا بالاستقلال ولكنها كانت أيضا تتلقى التعليمات من الخارج. فكيف كان من الممكن مثلا أن نحل مشكلة التقاء الحضارات فى ظل سياسة من الانفتاح الاقتصادى المرسوم لنا بدقة من الخارج؟

 

الأثر إثارة للدهشة ومدعاة للأسف ما حدث بعد ذلك فى بعض هذه البلاد «ومنها مصر»، عندما جاء إلى الحكم حكام جدد ادعوا أنهم جاءوا للدفاع عن الهوية والتمسك بالتراث، ثم ظهر أن علاقتهم بالقوى الخارجية مثلما كان حال النظم السابقة عليها، علاقة تبعية محضة، تصدر إليهم الأوامر فينفذونها، وإن كانوا خلال ذلك يتظاهرون بالورع والولاء لتراث الأمة.

 

الرجل الأبيض لا يكف إذن عن تغيير جلده. مرة يأتى فى صورة المبشرين بدين جديد، ومرة باسم نشر الحضارة، ومرة باسم التنمية الاقتصادية، وها هو الآن لا يستنكف عن التزين بزى أهل البلد الأصليين، فى سبيل تحقيق أحدث أهدافه «مرة باسم الصكوك الشعبية ومر باسم الصكوك الإسلامية».

 

●●●

 

فى مقال حديث بجريدة الجارديان الأسبوعية الانجليزية، نشر بمناسبة وفاة شنوا أشيبى، قرأت أن نيلسون مانديلا، ذلك الأفريقى الآخر العظيم، كان يقرأ كتب أشيبى أثناء الـ27 عاما التى قضاها فى السجن، وقال عنه إنه «الكاتب الذى كانت صحبته تهدم حوائط السجن التى تحيط بى». لا شك أن رواية أشيبى ألهمت مانديلا كما ألهمت غيره، ومن الممكن أن نقول شيئا مماثلا عما أحدثته رواية الطيب صالح فى نفوس الكثيرين من السودانيين والعرب، من اكتساب ثقة أكبر بالنفس، واعتزاز أكبر بثقافة أمتهم. ولكن المرء، من العرب أو سائر الأفارقة، لا يسعه الآن إلا أن يشعر بالأسى إذ يرى الإحباط الشديد يحل محل الأمل، ونوعا من الانكسار يحل محل الثقة بالنفس.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved