المؤامرة شرعية النظام

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: الأحد 20 أبريل 2014 - 9:25 ص بتوقيت القاهرة

منذ أن نشرت مقالى الأخير فى جريدة الشروق بعنوان «حروب الجيل الرابع.. ربع قرن من الأساطير» وردود الفعل تتوالى على المقالة سواء على رابط المقال فى الجريدة أو على صفحتى على موقع التواصل الاجتماعى أو حتى عبر اللقاءات المباشرة بالأصدقاء والزملاء. وقد لاحظت فى بعض ردود الفعل تشنجا لا مبرر له، والأهم أن العديد من الردود جاءت بفيديو لا يتخطى الخمسة عشر دقيقة مقتطع من سياق أعم من حديث لجنرال أمريكى من مؤيدى النظرية الواهمة للجيل الرابع ومترجم بشكل يعوزه الاحترافية ومذيل بمقال سابق للمستشار البشرى فى جريدة الشروق بدعوى أنه يدحض كلامى! وحينما حاولت الرد بأن الفيديو غير كامل وأنه لا يفعل شيئا سوى تأكيد كلامى عن أن الجدل شبه مقصور على العسكريين، وعلى الرغم من أنى أوردت مقال السيد أنطوليو ايشافاريا فى الرد على الحجج الوهمية للنظرية والتى تم ترديدها فى الفيديو المذكور، إلا أن التشنج فى الردود استمر وتم تذييله بالعبارات المعتادة عن انتمائى للطابور الخامس والخلايا النائمة.. إلخ.

•••

الأكثر قلقا أن أحد الزملاء لفت نظرى إلى أن حروب الجيل الرابع قد تحولت إلى اسم أحد البرامج التليفزيوينة على القناة الأولى، وحينما هرعت لمراجعة حلقات البرنامج، هالنى المحتوى الذى ورط مثقفين وعسكريين بل وناشطين لترديد كلام وهمى عن النظرية ونزعها من سياقها الأصلى على النحو الذى أوضحته فى المقالة السابقة بل والأدهى هو الصوت العسكرى الرخيم الذى يعلق للمشاهدين على الفيديوهات المنزوعة من سياقها كالعادة، والذى هو أشبه ببيان حرب وليس تعليق فى برنامج تليفزيونى! ثم كانت الكارثة من أن بعض الأصدقاء لفت نظرى أيضا إلى أن بعض المتفذلكين قاموا بصك تسمية جديدة، وهى «حروب الجيل الخامس» للإيحاء بتطور نظرية الجيل الرابع وتركيزها على مصر والعالم العربى ولا داعى للتعليق على الهراء الذى قرأته وسمعته عن النظرية المفترضة، فوقت القارئ وسطور الشروق أرقى من التعليق على هذا المسخ!

•••

أسبوعان منذ نشر مقالتى كشفت لى عن ورطة حقيقة تعيشها مصر وستظل فى تقديرى تدفع ثمنها لسنوات مقبلة وملامح هذه الورطة تتمثل فى النقاط التالية:

ــ أولا: النظام السياسى المصرى منذ ١٩٥٢ يقوم على هيمنة الأمنيين بشكل عام على عملية صنع القرار السياسى على حساب السياسيين، واذا كان هذا مفهوما فى عهد عبد الناصر (حيث خرجت الدولة لتوها من أتون الاستعمار) وفى عهد السادات (حيث خاضت الدولة مسارين مختلفين بل ومتناقضين أحدهما للحرب والآخر للسلام)، إلا أنه تعمق فى عهد مبارك، لدرجة أن نظام الرئيس الأسبق اعتمد على وزارة الداخلية ووزيرها حبيب العادلى بالأساس كصانع ألعاب للنظام ومصدر شرعيته الوحيدة فى ظل تجريف الحياة السياسية ومظاهرها التعددية.

ــ ثانيا: منذ اللحظات الأولى لثورة يناير وأجهزة الدولة السياسية منها والأمنية لا تتعامل معها إلا باعتبارها مؤامرة من قوى دولية لتفكيك الدولة المصرية، دون بذل أدنى جهد لإدراك الأسباب النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية العميقة لنظام مبارك الفاشل، ودون حتى محاولة سد ذرائع المؤامرة (بفرض وجودها) داخليا أو التعامل بواقعية مع مطالب الشباب والثائرين.

ــ ثالثا: استخدمت أجهزة الدولة الأمنية نظرية المؤامرة كأداة لإعادة لملمة ما تبقى من أشلاء دولة مبارك المهترئة من ناحية ولإضفاء شرعية على ما قررت أن تتخذه من سياسات مضادة للثورة (المؤامرة) من ناحية أخرى، فتم الاعتداء على المظاهرات، وتعقب وتشويه الثوار والتلاعب بهم حتى إنه وفى خلال عام واحد فقط منذ يناير ٢٠١١، كان الشعب نفسه قد بدأ الانقسام حول الثورة وأهدافها وما إذا كانت ثورة بالأساس أم مجرد مؤامرة للنيل من مصر، وقد لعب الإعلام وشبكات الدولة العميقة دورا مهما قطعا للترويج لهذه الأساطير.

ــ رابعا: بدأت الرؤية الأمنية تأخد زخما جديدا فى عهد الرئيس السابق محمد مرسى، بعد أن تبنى الأخير خطاب الأجهزة الأمنية، وبات هو وجماعته يرددا نفس الأساطير عن المؤامرات الداخلية والخارجية التى تحاك لمصر، دون أن يدرك الرئيس وجماعته العبقرية أنه لو كانت التظاهرات والإضرابات مؤامرات حقا لإسقاط الدولة وهيبتها (كما ردد بنفسه أكثر من مرة) لكان هو أول المتآمرين لأنه وجماعته قد أتوا من شرعية ثورية تعتمد بالأساس على التظاهرات والإضرابات كوسيلة لمقاومة النظام.

ــ خامسا: كانت تظاهرات ٣٠ يونيو وما اتخذ من بعدها من إجراءات سياسية عزلت الرئيس مجرد إرهاصات لتعضيد نظرية المؤامرة الدولية على مصر، التى أنقذها وزير الدفاع فى ذلك الوقت الفريق السيسى كما تم الترويج فى حينه ومازال، واتخذ نظام ٣ يوليو من الفكر التآمرى غطاء وشرعية لممارسة القمع وانتهاكات حقوق الانسان والتنكيل بالمعارضين وإنهاء النتائج السياسية لثورة يناير تماما بحيث لم يتبق منها سوى اسمها.

ــ سادسا: كما أن الإسلاميين وعلى رأسهم الإخوان قد شربوا طعم هيمنة النظرة الأمنية على عملية صنع القرار السياسى، ورددوا الخطاب الأمنى بديلا عن السياسى، فقد فعل الأمر ذاته من ادعى أنه زورا وبهتانا تيار مدنى حتى رأينا وزراء ثوريين يدعون المدنية والثورية لا يفعلون شيئا سوى مهاجمة الثوار والشباب والطلاب والعمال، مرددين الأطروحات الأمنية مرة أخرى ومخالفين لكل ما قالوه، وردده عبر سنوات من نضالهم ضد الأنظمة السلطوية المختلفة.

ــ سابعا: كانت الطامة الكبرى فى تقديرى أن بعض المثقفين اقتربوا من الأمنيين أكثر مما ينبغى، فطغى الخطاب الأمنى والرؤية التآمرية على رؤيتهم، وهو ما حرمنا من تحليلاتهم الموضوعية، التى تميزوا بها دوما فتراجعوا وتراجعت ثورتنا وأمالنا معهم.

<<<

وهكذا فلم تطغَ الرؤية الأمنية المروجة للخطاب التأمرى فقط على عملية صنع القرار السياسى، ولكنها جذبت لها حلفاء جدد من قوى سياسية مختلفة ليبرالية ــ مدنية أو حتى إسلامية، فضلا على سياسيين مستقلين ومناضلين معتزلين، ومثقفين وأكادميين.. إلخ وهو ما انعكس بدوره على الرأى العام الذى تبنى وأمن فى الخطاب التآمرى تماما! لكن هل معنى ذلك أنه لا توجد مؤامرات أو أنه لا ينبغى للأجهزة الأمنية أن تسهم فى عملية صنع القرارت السياسية ووضع الرؤى الإستراتيجية للبلاد؟ إجابتى هى قطعا لا، هناك مؤامرة ولا يمكن استبعاد الأجهزة الأمنية تماما من صنع القرار السياسى ولكن:

أولا: كل شىء بمقدار! فالمؤامرة قرينة بالعمل السياسى كما أن الشهرة قرينة بالعمل الإعلامى مثلا، فلا سياسة بلا مؤامرات، ولكن شتان الفارق بين أن تأخد المؤامرة حيذها المعقول فى التحليل وبين أن تهيمن على التحليل والرؤية فترتب أوضاعا دفاعية وتبريرية للقمع والسلطوية والقتل والتعذيب والاعتقال.

ثانيا: لا يمكن الاستغناء عن الأجهزة الأمنية فى صنع القرار السياسى وصياغة الرؤية الاستراتيجية للبلاد، وفى دولة مثل مصر، طبيعى أن تلعب الأجهزة الأمنية دورا مهما فى ذلك، أما أن تهيمن الأجهزة الأمنية وشبكاتها على عملية صنع القرار وتهمش السياسيين والحزبيين بل وتجبرهم لاحقا على تبنى رؤيتها على حساب الرؤى السياسية، فهذه هى الكارثة، لأن الأمنى بطبيعته رؤيته أضيق من السياسى، ويميل إلى رد الفعل والأوضاع الدفاعية، بدلا عن المبادرة بالفعل والسياسات الاستباقية والحوارت والمفاوضات.. إلخ.

•••

لا مستقبل ديمقراطى أو تنموى لمصر ما لم يسيطر السياسيون والمدنيون على عملية صنع القرار، بحيث تكون الرؤى الأمنية مجرد معطى من المعطيات لاتخاذ القرار، لا أمل فى مصر مستقلة ومتقدمة ولاعبة لدورها المحورى دون التأكيد على قيم التسامح والحوار والمصالحة والدمج والتعددية والاستيعاب وحقوق الانسان، وكلها قيم يفهمها السياسى المدنى لا الأمنى! هذه دعوى للمثقفين والإعلاميين والسياسيين والناشطين، نعم مصر تتعرض لأخطار ومؤامرات مثلها مثل أى دولة محورية فى العالم، ونعم يجب أن نأخذ الرؤى الأمنية فى الاعتبار، ولكن حذار من هيمنة الأمن ورؤاه على عقولكم وخطابكم وسياستكم، حذار من أن يتم استخدام المؤامرة كغطاء للقمع ووأد الحريات وتجريف الحياة السياسية، قارنوا بين رد الفعل الألمانى على عمليات تجسس حقيقة وليست افتراضية على ساستها وأجهزة صنع القرار بها، وبين رد الفعل المصرى على مؤامرات افتراضية بها، تجدون أن الأولى قررت دعم التعددية والشفافية والديمقراطية والقيم المدنية لتقليص المساحات أمام المتآمرين، بينما اتخذت الثانية من مؤامرات مفترضة كشرعية لتبرير قمعها وسلطويتها ووأدها لثورة عظيمة مثل يناير، فهل أدركتم ذلك قبل فوات الأوان؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved