الحوار المجتمعى: قصة طريفة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 20 أبريل 2015 - 9:45 ص بتوقيت القاهرة

كيف يتصل الحاكم بالمحكومين؟ رأينا مثلا على ذلك فى الاجتماعات التى استمرت ثلاثة أيام الأسبوع الماضى بين المهندس إبراهيم محلب وممثلين عن قوى وأحزاب سياسية سواء كان لها وجود على أرض الواقع وإن كان محدودا أو ليس لها وجود. وهذه الاجتماعات هى مثل طريف لما يحاول النظام السياسى المصرى أداءه تلبية لوظيفة هامة فى كل النظم السياسية، وهى التى يعرفها دارسو السياسة تحت مسمى «التواصل السياسى»، ويصر المشتغلون بالسياسة فى بلادنا على أن يطلقوا عليها «الاتصال السياسى» وللفارق بين التعبيرين دلالات هامة سيحاول هذا المقال توضيحها. وكما هو معروف لدى القارئ، انتهى هذا الحوار المجتمعى بنتيجة كانت معروفة مقدما، ولكن شاء المتفائلون من السياسيين الذين شاركوا فى هذه اللقاءات أن يتصوروا، بدون أى دليل يوحى بذلك، أن ما سينشغلون به مع رئيس الوزراء سيكون بالفعل حوارا ينتهى وقد تخلى كل طرف عن بعض مواقفه السابقة بحيث يخرجون وكلهم فائزون، حتى وإن لم يحصل كل منهم، بما فى ذلك رئيس الوزراء، على كل ما كان يريد فى البداية.
•••
لم يكن هناك فى الحقيقة ما يساند هذا التوقع من جانب هؤلاء المتفائلين، فلم تكن هناك سابقة فى تجارب ما يسمى بالحوار المجتمعى لم تخرج فيها الحكومة بغير ما كانت عازمة على إنفاذه من قبل بداية الحوار، اللهم ربما فى مداولاتها مع رجال الأعمال، والذين يملكون أدوات ضغط على الحكومة لا تملكها القوى الاجتماعية الأخرى، يمكن لرجال الأعمال أن يعزفوا عن ضخ استثمارات جديدة فى اقتصاد رأسمالى، وهو صورة من الإضراب عن العمل، ولكن لا يملك قادة الأحزاب سلاحا مماثلا فى فعاليته، بالطبع هم يمكن أن يهددوا بالإضراب، فى هذه الحالة يأخذ إضرابهم صورة مقاطعة الانتخابات، ولكنهم يعرفون أن مثل هذا التهديد ليست له أى مصداقية، فالمواطنون يذهبون إلى الانتخابات ليس بالضرورة استجابة لدعوات الأحزاب السياسية، ولكن بالنسبة لكثير منهم تأييدا لمرشح يتمتع بالنفوذ فى دائرته لما يملك فيها من عصبية مساندة، أو تحت إغراء ما ينفقه من أموال، وحتى إذا لم تذهب أغلبية الناخبين لصناديق الاقتراع، فلا يوجد فى قوانين الانتخابات فى مصر ما يبطل الانتخابات بسبب ضآلة نسبة من أدلوا بأصواتهم فيها، وربما تستريح الحكومة لقلة أعداد الناخبين، فسيضفى ذلك قدرا أكبر من الهدوء على أجواء الانتخابات، وهو ما تتمناه الحكومة.
ومع ذلك هناك جديد فى كيفية أداء حكومة الرئيس السيسى لوظيفة الاتصال السياسى هذه يميزها عن حكومات مصر السابقة فى عهد كل رؤسائها السابقين. طبعا هناك سمات مشتركة، وهى الطابع السلطوى لطريقة أداء هذه الوظيفة، فهى اتصال سياسى أحادى الجانب، هناك من يتصل، أى من يبلغ رسالة معينة، وهو صاحب السلطة، ولكنه لا يتواصل، أى لا يتفاعل مع من يتصل به ولا يتلقى منه أى رسالة، فهو يتوقع منه التسليم بما يبلغه، ولا ينتظر من المتلقى رسالة أخرى سوى السمع والطاعة، وهى رسالة ذات محتوى ثابت لا يتغير لأنه ليس هناك ما يدعو لتغيير المحتوى فليس من المتوقع أن يطرح المتلقى اعتراضات تدعو إلى بذل المرسل مجهودا للإقناع. الاقتناع ليس مطلوبا، الطاعة فقط هى ما يسمح به المرسل.
•••
ومع وجود هذه القسمات المشتركة بين أداء وظيفة الاتصال السياسى فى السنة الأولى للرئيس السيسى وعلى عهد الرؤساء السابقين، إلا أن هناك خلافات هامة أيضا بين هذه العهود الأربعة. هناك خلاف أولا فى مدى كثافة الاتصال وخصوصا من جانب رئيس الدولة، وفى أداة الاتصال، وبطبيعة الحال هناك خلاف أكبر فى مضمون الاتصال. لاشك أن الاتصال كان أكثر كثافة بكثير فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر وأقل إلى حد ما على عهد الرئيس السادات، ولكنه تضاءل كثيرا على عهد الرئيس حسنى مبارك، وانخفض بدرجة أكبر مع الرئيس عبدالفتاح السيسى. ويمكن القول إن كلا من عبدالناصر والسادات مع الخلاف بينهما كانا من قادة ثورة تمردت على نظام قديم، ومع أنهما مثل من تبعاهما كانا من ضباط الجيش إلا أنهما خرجا عن نمط موظفى الدولة المصرية بينما جاء كل من الرئيسين مبارك والسيسى من رحم جهاز الدولة المصرية وتتطبعا بطابعه. ولذلك اهتم كل من عبدالناصر والسادات بمخاطبة الشعب، وتلمسا المناسبات للحديث للمواطنين، وبالخروج على صيغة الخطاب المعد لهما باللغة الفصحى للتبسط مع المواطنين باللغة العامية. تعددت المناسبات الرسمية التى كان عبدالناصر يخطب فيها من عيد الثورة فى 23 يوليو إلى عيد خروج الملك فى 26 يوليو إلى عيد النصر فى بورسعيد فى 23 ديسمبر إلى عيد العمال فى أول مايو وغير ذلك من مناسبات رسمية أو اقتضتها الظروف، وكان خطاب عبدالناصر طويلا يستغرق أحيانا ثلاث ساعات، وكان لقاؤه بالمواطنين مباشرا فى ميدان عابدين أو ميدان المنشية بالإسكندرية، وكان الذى يغلب على خطابه هو التعبئة، حث المواطنين على النضال ضد الاستعمار أو لتحقيق الوحدة العربية أو دفع التحول الاشتراكى. وكان لخطاب السادات مناسبته الرسمية، فهو يخطب فى ذكرى ما سماه بثورة التصحيح فى 15 مايو، وفى ذكرى حرب أكتوبر وكذلك فى افتتاح الدورة السنوية لمجلس الشعب وفى أول مايو، ولكن ندرت فى عهده اللقاءات الجماهيرية الواسعة، كما ابتكر صيغة الحوار المطول فى عيد ميلاده مع إحدى مذيعات التليفزيون. وكانت خطاباته طويلة أيضا، ولكن لم تصل فى مدتها الزمنية لما كانت عليه خطابات عبدالناصر. وقد تنوعت الرسالة الأساسية للخطاب من التهدئة إلى التهديد والوعيد، واستخدم تعبيرات مثل فرم المعارضين والتأكيد على أن الديمقراطية لها أنياب.
تغير الأمر كثيرا مع كل من الرئيسين مبارك والسيسى. قلت كثيرا مرات التواصل مع المواطنين، وأصبح قاصرا على مناسبات رسمية محدودة، هى فى حالة الرئيس مبارك خطاب افتتاح مجلس الشعب فى نوفمبر وخطاب عيد العمال الذى يجرى الاحتفال به فى التاريخ الذى تحدده أجهزة الأمن، وليس فى أول مايو بالتحديد، وهو خطاب معد سلفا، ولكن يخرج عنه الرئيس خصوصا فى عيد العمال ليتحدث بالعامية، ولم يتردد الرئيس مبارك فى الجمع بين نصح المواطنين والسخرية منهم، لأنهم ينجبون كثيرا من النسل، ويحملون الدولة كثيرا من الأعباء. وكانت خطاباته قصيرة نسبيا بالمقارنة بسابقيه، وتلقى فى أماكن مغلقة، فقد أخذ حذره من الأماكن المفتوحة، فقد أغتيل سلفه فى مكان عام حتى وإن كان عند اغتياله محاطا بجنود الجيش. أما الرئيس السيسى فلا يملك المراقب لمناسبات خطابه للمواطنين إلا أن يلاحظ أنها محدودة للغاية تقتصر على خطاب رسمى معد سلفا باللغة العربية الفصحى يجرى إلقاؤه فى مكان مغلق أو من خلال استديو فى قصر الرئاسة، وذلك باستثناء خطاب تنصيبه رئيسا وكان فى قصر القبة أمام من دُعوا لهذا الاحتفال. وإذا ما خرج الرئيس عنه فبعبارات قليلة باللغة العامية لا تتجاوز جملا محدودة. والرسالة الأساسية لهذا الخطاب هى الصمود فى وجه التهديدات التى تأتى من الإرهابيين والوعد بأن مصر ستستعيد عظمتها.
•••
وتتضح الطبيعة الفريدة لأسلوب أداء وظيفة الاتصال هذه بما هو الحال فى دول استقرت ديمقراطيتها. رئيس الوزراء البريطانى يتواصل مع شعبه أسبوعيا تقريبا من خلال جلسات مجلس العموم ببيانات يلقيها أو يرد على ادعاءات المعارضة بحجج يسعى من خلالها لإقناع الرأى العام البريطانى بحكمة سياساته. والرئيس الفرنسى هولاند يلقى خطابات، فى مناسبات رسمية، ولكنه يلتمس الظروف ليتحدث للشعب الفرنسى ليس بالضرورة من خلال الخطاب الرسمى، ولكن من خلال حوار تليفزيونى يجمعه ببعض أهم المذيعين فى فرنسا يطرحون عليه أسئلة مما يشغل الرأى العام أو فى مؤتمرات صحفية يوجه له الصحفيون فيها أسئلة محرجة، وهو لا يغتنم هذه الفرصة للتعبئة أو التهديد والوعيد أو التعهد بمستقبل وردى، ولكنه يصارح شعبه بحقائق الوضع العام، ويسعى لإقناع محاوريه بما يقول ويسمح لهم بالاختلاف معه. نفس الأمر بالنسبة للرئيس أوباما الذى يتوجه للمواطنين من خلال حديث إذاعى أسبوعى فضلا عن المؤتمرات الصحفية التى يواجه فيها سيلا من الأسئلة من صحفيين يرددون على مسامعه ما يقوله معارضوه، وهو يسعى جاهدا لإقناعهم بالحجة بسلامة سياساته. ولاشك أن هذا السياق الذى يجرى فيه هذا الحوار هو الذى يجعل منه تواصلا يستفيد منه الحاكم والمحكومون، ويظهر أثره فى تغير مواقف هؤلاء القادة على ضوء ما تكشفه لهم هذه اللقاءات.
ليت حكومتنا تتخلى عن أسلوبها المعهود المسمى بالحوار المجتمعى الذى هو فى حقيقة الأمر اتصال سياسى من جانب واحد، وتسعى بدلا من ذلك إلى تواصل جاد مع المواطنين. تسمع وتتعلم منهم، وتسلم بأن لهم حججا مقنعة إن لم تجد هى من الحجج ما تقبله عقولهم.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ومدير شركاء التنمية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved