استنفار «الضمير المجتمعى» وعصر كورونا (4)

نبيل فهمي
نبيل فهمي

آخر تحديث: الإثنين 20 أبريل 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

إنشاء صندوق دولى ترعاه الأمم المتحدة أصبح ضرورة لتوفير مساندة عاجلة فى الأزمات
خلال الأسابيع الماضية قضيت مثل الكثيرين، فترات طويلة وغير معتادة دون السفر خارج الوطن العزيز وداخل مقر إقامتى، إلا لفترات محدودة خارج المنزل، لقضاء الحاجات الضرورية، التى لا تتوافر داخله. ومع طول المدة قضيت وقتا فى التفكير والتأمل حول تصرفاتى الشخصية والأوضاع السياسية ما قبل وبعد ظهور فيروس كورونا.
فوجدت من تصرفاتى الشخصية أن الاحتياجات المهمة أقل كثيرا مما كنا نتصوره، وأن الضرورى منها لا يستغرق توفيره وقتا طويلا، وهو بالتأكيد أقل كثيرا عما نقضيه حولها فى الأيام والظروف العادية، وهو ما جعلنى أتأمل فى مدى إسرافنا الشخصى على أمور وملذات غير ضرورية، فى الوقت الذى يفتقر فيه الآخرون إلى الحد الأدنى من متطلبات الإنسانية من الغذاء والصحة والمأوى.
أيقنت أيضا أن الكثير من متطلبات حياتنا اليومية، بما فى ذلك الوظيفية والمهنية، يمكن قضاؤها من داخل المسكن أو فى أماكن محدودة، مع أقل درجة من الحركة أو التداول الخارجى، وهو ما يجنبنا ويجنب آخرين تداعيات عديدة على الأوضاع العامة مثل الزحام، والتلوث، وانتقال الأمراض، وحتى آثار التغير المناخى نتيجة لانبعاث غاز ثانى أكسيد الكربون، ولعل متابعة الانخفاض الواضح فى التلوث بسماء العاصمة الصينية بكين أو الهندية نيودلهى، يوفر دليلا محددا وملموسا للتحسن الذى يمكن أن يطرأ من ضبط حركة التداول والزحام.
ومن التغيرات الأخرى فى تصرفاتى الشخصية، التى عززت لدى الرغبة فى التأمل والتفكير، هى أننى بعد رحلة وظيفية طويلة فى ساحة العمل العام والمتابعة السياسية، أصبحت أركز فى جدول أعمالى، وفى قراءاتى من بداية اليوم على قضايا عامة، على رأسها القضية العالمية العصرية الكبرى، وهى الآن فيروس كورونا وعدد المصابين والمتوفين منه. ليس فقط بما يعنينى فى محيطى المباشر الوطنى أو الإقليمى، وإنما بنفس الاهتمام بحجم الضحايا والخسائر عالميا، ودون تمييز بين ساحة أو أخرى لاعتبارات سياسية، انطلاقا من أننا جميعا فى النهاية خلقٌ للرب الواحد، ولى نعمتنا جميعا، مهما اختلفت سياساتنا، أو احتدت خلافاتنا، أو تباينت معتقداتنا.
واتصالا بتلك الملاحظة الأخيرة رحبت بصدور العديد من المناشدات الدولية لوقف الحروب والمعارك مؤقتا، للتصدى لفيروس كورونا، بما فى ذلك الصادرة يوم 23 مارس عن سكرتير عام الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار عالميا، باعتبار الفيروس مشكلة لا تُحل دون تعاون الجميع، وأكبر وأعمق من القضايا السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية. وأيا كانت أسبابها، فالكل مصاب من هذا الفيروس سواء القوى أو الضعيف، الغنى أو الفقير، الظالم أو المظلوم.
ورحبت بهذه المناشدات ولأنها بمفهوم المخالفة، تعكس يقينا أن التعاون والسعى لإيجاد حلول ترضى مصالح الجميع واجب، وهو أمر إذا ترجم إلى ممارسة صادقة وطبق على القضايا السياسية، والنزاعات والمعارك، يسمح لنا بإيجاد حلول لخلافات طال أمدها طويلا، وأصبح هناك اعتقاد أن حلها من أبعد المستحيلات.
وخلال ساعات النهار والليل الطويلة داخل المسكن، وجدت نفسى أتحسر على ضعف النظم السياسية، وغياب الضمير الاجتماعى، الذى جعل أكبر وأغنى دول العالم، مثل الولايات المتحدة والصين ودول أوروبية غنية، ساحات كبيرة للإصابات والوفيات من فيروس كورونا، نتيجة لسوء إدارة الأزمة فى البداية، وغياب الشفافية اللازمة لتجنب انتقالها، داخل حدودها ومنها إلى دول أخرى، أو لضعف المنظومة الطبية وعدم توافر الإمكانيات اللازمة لمواجهة أزمة صحية بهذا الحجم، لعدم وجود إرادة سياسية توفر الموارد للإنفاق الاجتماعى، ثم تستقبل مساعدات طبية من دول أخرى، رغم وصول الإنفاق العسكرى فى العالم، أغلبها من قِبل دول كبرى وغنية إلى ما يتجاوز 822 تريليون دولار عام 2018.
لا شك أن هناك المزيد والكثير مما يمكن إضافته، الذى يحتاج لتفكير عميق ومتشعب، لاستخلاص أهم الدروس، وطرح ما يجب تبنيه من السياسات أو اتخاذه من إجراءات، للتعامل مع واقع عصر العولمة، الذى يحمل فى طياته العديد من الفرص والخبرات، مع سرعة تبادل الأفكار والسلع والمنتجات، وتقدم تكنولوجى مذهل وبمعدلات سريعة. عصر فيه الحق والباطل، ويشهد فى نفس الوقت الانتشار السريع للأوبئة، والمشكلات العالمية مثل الفقر والتغير المناخى، وبمعدلات قد تفوق بكثير انتقال الثروات والإيجابيات.
وغنى عن القول إن الأولوية للجميع فى هذه المرحلة يجب أن تكون لمواجهة المخاطر الصحية لفيروس كورونا، والعمل على تجنب إعادة انتشاره بضمان الاستعداد المبكر، والقدرة على التعامل السريع مع الأحداث، بما فى ذلك إجراء التحاليل اللازمة ومتابعة المرضى وعزلهم، وهى أمور تحتاج إلى قدرات تكنولوجية عالية، وهنا أود تسجيل امتعاضى من القرار الأمريكى الخاص بمساهمتها فى منظمة الصحة العالمية.
وبعد ذلك فى الترتيب سيكون علينا بطبيعة الحال، للعمل على تجنب دخول الاقتصاد العالمى فى ركود عام وواسع، فضلا عن التعامل مع الظروف الاقتصادية الضاغطة فى كل من مجتمعاتنا الوطنية، وهناك المزيد مما يقال حول تفاصيل كل ذلك.
وأعتقد أن القضية الكبرى التى يجب أن تحظى بالاهتمام هى غياب «الضمير الاجتماعى» فى تفاعلاتنا وتصرفاتنا الدولية والإقليمية والوطنية، حتى لا نواجه المزيد من المشكلات العالمية عبر الحدود، التى يصعب السيطرة عليها دون التضحية بالجوانب الإيجابية من عصر العولمة والتقدم التكنولوجى.
وعكس ما يتصوره البعض، هذه ليست مسألة نظرية أو طرحا مثاليا، بل قضية ضرورية وحقيقية، ولها مكونات محددة، بعيدا عن العموميات والشعارات الرنانة، ويمكن إيجازها فى أنه لم يعد مقبولا أن نشهد إنفاقا واسعا ومبالغا فيه على التسلح وتوفير الاحتياطى لأسوأ الظروف والمخاطر العسكرية، فى سياق نظريات عقيمة سادت أثناء الحرب الباردة، مثل تحقيق الاستقرار من خلال رادع قدرة الأطراف المتنافسة بـ«الفناء المتبادل»، وكيف نقبل أن نواصل التقاتل والتدمير والتشريد إذا كنا نستطيع وقف إطلاق النار فجأة وبسرعة لمواجهة أزمة فيروس كورونا.

هذه متناقضات غريبة حقا ولم تعد مقبولة، لذلك أقترح ما يلى:

أولا: أن يبذل جهد فكرى لبلورة مفاهيم وإجراءات لإحياء واستنفار «الضمير المجتمعى» الدولى والإقليمى والوطنى، بتشكيل سكرتير عام الأمم المتحدة مجموعة أو مجموعات عمل صغيرة ومميزة من القيادات والمفكرين والحكماء، على أن يكون ذلك بصفتهم الشخصية حتى يتسنى تجاوز العثرات الناتجة عن تباين المواقف والسياسات الحكومية القائمة، لمراجعة أسس النظام الدولى المعاصر ومواثيقه التى وضعت عقب الحرب العالمية الثانية مع إنشاء الأمم المتحدة، لتضع توصيات محددة تناقش ويتم إقرارها فى دورة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة، أو فى مجلس الأمن قبل ربيع 2021.
ثانيا: إنشاء صندوق دولى تحت رعاية سكرتير عام الأمم المتحدة، الذى من المفترض أن يمثل الضمير الحى للمجتمع الدولى، لتوفير المساندة العاجلة الإضافية فى الأزمات الاجتماعية، ويشرف عليه ممثلون على أعلى مستوى من المؤسسات الدولية المعنية، مثل البنك الدولى، أو منظمة الصحة العالمية، أو منظمة الغذاء العالمية. ويمكن أن تصرف على برامج تحت إشرافها، على أن يحق لكل دول العالم، سواء كان الأعضاء أو المراقبون فى الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية الاستفادة من الصندوق، وفقا لمعايير يتم وضعها من مجلس إدارته، لتراعى الاحتياج والقدرات المادية، والضرورات الإنسانية الطارئة بعيدا عن السياسة، وعلى أن تخفض الدول إنفاقها فى المجال العسكرى بنسبة 3 فى المئة، تخصص 1 فى المئة إلى الصندوق الدولى، و2 فى المائة لبرامج فى أوطانها لأغراض الصحة والغذاء والمأوى.
ثالثا: أما الجانب الإقليمى والسياسى من السعى لإحياء الضمير المجتمعى، فأرى أن يكون فى إطالة مبادرات وقف إطلاق النار، الذى أطلقها سكرتير عام الأمم المتحدة، وغيره مثل الذى أعلنه التحالف العربى باليمن، أو ما اقترح بين قوات حفتر والسراج فى ليبيا، أو حتى ما تردد عن احتمال وجود صفقة بين إسرائيل وحماس فى غزة للتعاون فى المجال الصحى فى مقابل الإفراج عن بعض الضباط الأسرى الإسرائيليين، وهنا أقترح الخطوات التالية:
الاتفاق على وضع جميع المفاوضات الخلافية السياسية تحت الغطاء السياسى للأمم المتحدة، ليس كبديل عن المفاوضات الثنائية أو الإقليمية، وإنما تحفيزا للمفاوضات وتأكيدا للمسئولية الجماعية، ليتم تخطى العقبات الخاصة بعدم وجود اعتراف متبادل، أو لتوتر العلاقات بين الأطراف، على أن يشمل هذا الغطاء ليس فقط الأطراف المتفاوضة المباشرة، وإنما أيضا المنظمات الإقليمية المعنية، وأعتقد أن هناك مصلحة وعائد إيجابى من إضافة العنصر الإقليمى من خلال حضور الجامعة العربية فى مفاوضات النزاع العربى الإسرائيلى أو سوريا، وكذلك بالنسبة لليبيا. وهنا أيضا من المفيد مشاركة وحضور الاتحاد الإفريقى.
ولإعطاء فرصة كافية لمثل هذا الجهد السياسى أن يأخذ مجراه، أقترح أن يدعو السكرتير العام لإعلان وقف إطلاق النار فى جميع الساحات التى يتم التفاوض حولها حتى يونيو 2021 كخطوة أولى، مع الاستفادة من القدرات التكنولوجية الهائلة لدول مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وغيرها، لتصوير ساحات المعارك وتحديد الأوضاع على الأرض عبر الأقمار الصناعية، وتوفير هذه البيانات للسكرتير العام لتحديد الوضع الراهن كنقطة بداية، وحتى لا يتعدى طرف على ساحة الآخر إلى انتهاء المفاوضات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved