دردشة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: السبت 24 أبريل 2021 - 2:47 م بتوقيت القاهرة

"أستاذنا العزيز. غاضبة أنا؟ نعم أنا غاضبة وخائفة. أراهم فى الدول العظمى وقد استعدوا فيما يبدو لإعلان الهزيمة فى حربهم ضد الفيروس. أراهم وفى نية جماعات فى هذه الدول إشعال حروب أهلية أو تفجير تقلبات اجتماعية عنيفة. أرى فى الأفق حروبا صغيرة بين الجيران فى أوروبا وآسيا وحروبا كبيرة فى إفريقيا. أتفادى قدر الإمكان أن تنعكس هذه الرؤى على تصرفاتى فى بيتى وعلاقاتى مع الأقرباء والأصدقاء. أدير معركتى الشخصية مع الفيروس وكأن النصر وراء الباب. أحرص على ألا يخرج أولادى إلى الشارع إلا وقد غطت أنصاف وجوههم الكمامات المضادة للفيروس. أفتح باب الشقة صباح كل اليوم لأتأكد بنفسى من أن السيدة التى تساعدنى فى تنظيف البيت تضع الكمامة. أجعلها تقسم أنها تضعها قبل أن تخرج من بيتها ولا تفارقها حتى تصل إلى شقتى، وهى مسافة تركب لها ثلاث وسائل مختلفة من المواصلات. استقبلها بعين رقيب منضبط. تدخل من باب الشقة متوجهة بدون تردد أو تفكير نحو باب الحمام. تقضى فى الحمام ما تشاء من وقت بشرط أنها حين تخرج منه تكون قد تخلصت من ملابس خرجت بها من بيتها ووضعت كمامة جديدة تسحبها من علبة كمامات غير مستعملة أتأكد دائما من احتوائها على عدد وفير وكاف. أحرص فى الوقت نفسه على أن أكون أنا نفسى للآخرين نموذجا. لا ألتقى ضيفا فى منزلنا أو غريبا فى اجتماع أو زميلا فى العمل إلا وكمامة الفيروس على وجهى. ولكنى إنسان ولا كمال للإنسان كما تعرف وأعرف. أنا كممثل أكيد لصنف البشر أنحاز لأفراد ولأشياء. استثنى بعض الناس عند تطبيق قواعد وتقاليد، وحضرتك واثق من أنك واحد فى هذا البعض. أرى فى عينيك فضولا. عيناك تسألان عن دوافع وأسباب الانحياز، تسألان عن مبررات هذا الاستثناء. لا أخفيك أننى توقعت السؤال قرب نهاية كل لقاء بيننا وتهربت. اليوم أجيبك".

***

"أخاف من أنفاسى ولمساتى وأحيانا من نظراتى، أخاف منها على ابنى وعلى زوجى وعلى أبى وأمى وعلى ايناس صديقة عمرى وعليك. أخاف عليكم منها ومن الفيروس الخبيث. ورغم خوفى لا أضع على وجهى كمامة فى وجود أى منكم. معكم أعرف أنه لا الشر ولا حتى الظن يمكن أن يتنقل حرا بيننا ذهابا وإيابا. قيل هى الثقة المتبادلة المتخيلة حينا والمبالغ فيها حينا آخر. قيل أيضا أننى بكم، مجتمعين أو منفردين، تشجعت فقبلت التحدى. بدونكم ما كنت تصديت، من أجلكم استجبت مثلا لدعوات التطعيم".

***

"جلست أنا وخمسة أفراد ننتظر من ينادى على أرقام وزعوها علينا عند وصولنا. كنا فى صالة انتظار تتسع لخمسين. معنا فى الصالة رجال أمن. لم يفاجئنى وجودهم وعلى كل حال لم يعد وجودهم فى أى مكان وفى كل مكان يمثل مفاجأة. اعترف أننى على عكس المعتاد ارتحت لهذا الوجود المكثف وبخاصة بعد أن تبينت أنهم يعملون فى هدوء وبتواضع ويهتمون بطمأنة الزوار وإرشادهم إلى مواقع الانتظار والكشف والتلقيح. تمنيت لو قام أحدنا بتصوير هؤلاء الرجال المرتدين بزات عمل زرقاء، تسمى «أوفرول»، وقد كتب على ظهورهم باللغة الأجنبية وبالخط العريض ما يحدد هويتهم كرجال أمن. ما أحلى اللحظة التى يتعلم فيها المواطن معنى جديدا لكلمة أمن. تعلمنا هذا الصباح قبل أن ندعى للمثول أمام اللجنة الطبية، تعلمنا أن الأمن إرشاد وتهدئة خواطر وابتسامة. عدت إلى بيتى مزودة بطاقة متجددة تسمح بجولة أخرى من جولات عديدة نخوضها ضد أخطر ما واجه عائلتى ودوائر معارفى ومصادر سعادتى من كوارث وأسباب للغضب والنكد".

***

"أستاذنا العزيز.. أما زلت معي؟ أعدك لن أطيل فهذه الفقرة ستكون الأخيرة فيما قصدت أن يكون مجرد دردشة. اتصلت زميلتى قرب الفجر. قالت بصوت كالهمس.. أعيش يا عزيزتى أوقاتا صعبة. أنه الفيروس ولاشك. سئمت منظر الزملاء والزميلات فى العمل وقد اختفت وجوههم تحت الأقنعة. اشتقت إلى وجوه ساخرة ووجوه سعيدة ووجوه مهللة. آمنت يا صديقتى بحكمة أنت مصدرها، آمنت بأن فى الاستثناء عن القاعدة تحررا من قهر وقمع وتخلصا من أزمات ملل وضيق تنفس وتوترات عصبية. نشأت أكثريتنا، نحن معشر النساء، على مبادئ التنميط، فرضوا علينا قاعدة كلنا رجل واحد. تمرد منا على هذه النشأة من تمرد. بعض من تمردوا اختار الاستثناء قاعدة، آخرون راحوا يعالجون بالاستثناء أزمة. البعض حاول بالاستثناء «فك عقدة» قبل أن تستحكم وبين هؤلاء من عاد بعد فك عقدته إلى السيرة النمطية"...

***

عزيزتى، نعم أطلت حتى تجاوزت الدردشة هويتها المقررة. أثنى على شطارتك فقد جرى استدراجى لأشاركك اللعب على أرضك، وأعترف بأنك بالفعل كنت كعهدى بك صاحبة موهبة فى هذا المجال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved