«أثر الفراشة لا يزول»

يوسف الحسن
يوسف الحسن

آخر تحديث: الأربعاء 20 أبريل 2022 - 9:33 م بتوقيت القاهرة

هى حكمة إنسانية قديمة، عرفتها حضارتنا العربية والإسلامية، ويرددها الخواص، وخواص الخواص والعوام، وتقول هذه الحكمة، والتى تجىء أحيانا ضمن بيت من الشعر، إن «معظم النار من مستصغر الشرر».

حدث صغير وقد يُستخَف به، إلا أنه يحمل فى أحشائه مقومات الانتشار والتنامى والتأثير، فتجعل منه دمارا وهلاكا.
مسلكيات ومواقف غير نزيهة، وغير سوِّية، نحسبها «هيّنة» لكنها تتعاظم وتكبر مثل كرة الثلج، وتتكرر ونتجاهلها، إلا أنها تكون محفزا لانفجارات كبرى فى القادم من الأيام.
شَرَر «الفساد والهدر وسوء الإدارة»، يبدأ صغيرا، وإهماله وهو يكبر ويتسع ينتهى إلى مخاطر غير محسوبة.
الأمثلة كثيرة فى حياتنا العربية المعاصرة، ومنها: الرقص (الذى نستهين به) على أنغام الطائفية والمذهبية، يدمر أوطانا ويشرد شعوبا ويفكك أنسجة المجتمعات وسلمها الأهلى، ورأينا كيف أن «الإرهاب كان أوله كلام»، وكيف تسللت قوى إقليمية ودولية «وغير دولاتية» إلى الجسم العربى، من خلال ثقوب وفراغات، بدأت صغيرة، وكبرت حتى اتسع «الخرق على الراتق» ورحنا «نضرب كفّا بكف».
إن تفكيك وتحليل ومعالجة الأحداث والمسلكيات الصغيرة، وحتى تلك التى لا تُرى، ضرورة وطنية وإنسانية فى آن.
لنتذكر فى هذا الإطار «معظم النار من مستصغر الشرر»، تلك النظرية الفلسفية والفيزيائية، المسماة بـ«أثر الفراشة»، والتى أطلقها عالم أرصاد أوروبى فى العام 1963، وقال ما معناه: «إن رفرفة جناح فراشة فى غابات الأمازون، يمكن أن تتسبب بعد وقت، فى حدوث إعصار فى تكساس». تعبير بسيط صار مثلا، وألهم شاعرا هو محمود درويش ليصدر ديوانه حاملا اسم «أثر الفراشة»؛ حيث يقول فى قصيدة منشورة فيه:
«أثر الفراشة لا يُرى
أثر الفراشة لا يزول
....
مثل أغنية تحاول أن تقول وتكتفى
بالاقتباس من الظلال ولا تقول»
• • •
نتذكر مثلا ما حدث قبل أكثر من مائة عام، حينما قام طالب من صربيا باغتيال ولى عهد النمسا وزوجته فرانز فرديناد فى يونيو 1914، أثناء زيارتهما إلى مدينة سراييفو.
حادث عادى قد يحدث فى أى مكان، لكن أثر هذه (الرصاصات ــ الفراشات) أدى، بعد إطلاقها بنحو شهر، إلى نشوب الحرب العالمية الأولى، والتى استمرت أربع سنوات، وإلى حدوث جرائم إبادة جماعية، ومقتل أكثر من 16 مليون شخص، وظهور وباء «الإنفلونزا الإسبانية» فى نهاية الحرب، والذى تسبب فى وفاة أكثر من خمسين مليون شخص، كما تسببت هذه الحرب بانتهاء الدولة العثمانية، وإمبراطوريات أخرى، وصولا إلى إنشاء منظمة «عصبة الأمم».

حدث آخر، «فراشة» أخرى، رفرفت بجناحيها فى مدينة سايغون عند تقاطع شارع قريب من القصر الرئاسى، فى صبيحة اليوم العاشر من شهر يونيو عام 1963، حينما تقدمت سيارة صغيرة موكبا كبيرا من الرهبان والراهبات البوذيين، ينشدون تراتيلهم الدينية، ويرفعون لافتة تطالب بالحرية الدينية.

توقف بعض المارة، وبعضهم استأنف طريقه؛ إذ لا جديد فى مظاهرة للرهبان، فى مرحلة ما سمى «الحرب الفيتنامية»، وفجأة توقف الموكب، وشكّل الرهبان نصف دائرة حول السيارة الصغيرة، ثم وقفوا صامتين.
ترجل ثلاثة رهبان من السيارة، ووضع أحدهم وسادة على الأرض، وسار الراهب الثانى وجلس على الوسادة، متخذا وضعية زهرة اللوتس، وأغمض عينيه متأملا، وتقدم الراهب الثالث، وتناول من السيارة برميلا صغيرا مملوءا بالبنزين، وسكبه على رأس الراهب العجوز، فوجئ الناس، وبعضهم غطّى عينيه، وذهل رجال الشرطة مما يرون، وظل الراهب العجوز ساكنا، وأخرج من جيبه ببطء علبة كبريت، وأشعل عودا وأضرم النار فى جسده، وسرعان ما ابتلعت النار الجسد، وامتلأ الهواء بروائح اللحم المحترق والبنزين، بدأت الصرخات تنطلق من جموع الناس.

أثار المشهد الذى نقلته آلة تصوير كان يحملها أحد المراسلين الصحفيين، غضب الملايين من الناس فى العالم.
فراشة رفرفت بجناحيها وطارت، تركت أثرا مهما، عود كبريت وراهب يحترق، وصورة للمشهد تنتشر فى العالم، أطاحت نظام دييم، رئيس فيتنام الجنوبية، المتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها فى ذلك الوقت، وأججت حرب فيتنام وهى حرب غير أخلاقية، وغير مبررة انتهت فى عام 1975 وخسرت فيها أمريكا أكثر من خمسين ألف جندى، وسُجلّت أسماؤهم على نصب تذكارى من الجرانيت الأسود، أنشئ فى عام 1982، وموقعه فى حديقة الدستور، بجوار النصب التذكارى لإبراهام لنكولن فى العاصمة الأمريكية واشنطن دى سى.

فراشة أخرى، وهذه المرة، فراشة عربية، رفرفت بأجنحتها ذات يوم من أيام ديسمبر فى عام 2010، فى حى سيدى بوزيد فى تونس، وتركت أثرا خطرا وممتدا، حينما قام شاب تونسى، يعمل كبائع متجول، واسمه طارق بن محمد البوعزيزى، بإضرام النار فى جسده (ومات بعدها بأسابيع)، احتجاجا على مصادرة البلدية لعربته التى يبيع عليها الخضار والفاكهة لكسب رزقه. لم تتقبل السلطات شكواه، وقيل إن شرطية صفعته على وجهه أمام الملأ (نفت الشرطية قصة الصفعة فيما بعد)، وقالت له بالفرنسية: ارحل..

وكان أثر هذه الفراشة كبيرا، اشتعلت اضطرابات وانتفاضات واحتجاجات شعبية فى عدد من الدول العربية، وتنوعت الأسباب والتداعيات، وراكبو موجاتها، وتسببت فى نهاية المطاف، بدمار هائل، وضحايا ولاجئين ونازحين وأزمات وحروب أهلية وعنف وإرهاب وأوجاع، وتدخلات إقليمية ودولية بأجندات متنوعة.

فراشة أخرى رفرفت بجناحيها فى شريط مسجل لحديث صحفى خاص مع الرئيس المصرى الأسبق أنور السادات أجراه صحفى مشهور، إثر توقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد، وانعقاد مؤتمر فى بغداد فى نوفمبر 1978 قررت فيه سبع دول عربية مقاطعة مصر، وقام الصحفى المشهور بتسليم الشريط المسجل إلى زعيم دولة عربية، والذي احتوى على إساءة وجهها السادات لزعيم عربي آخر.
وحينما انعقدت قمة عربية فى تونس، لتأكيد استمرار المقاطعة وتعليق عضوية مصر فى الجامعة العربية وتعيين الشاذلى القليبى كأول أمين عام غير مصرى للجامعة، كان تأثير رفرفة جناح الفراشة، فى ذلك الشريط المسجل، كبيرا على زعيم تلك الدولة العربية، والضغط باتجاه توسيع المقاطعة وإطالة أمدها اليوم.
• • •
تبدو لرفرفة أجنحة الفراشات فى روسيا وأوكرانيا تأثيرات هائلة: أعاصير سياسية واقتصادية، وأوجاع وضحايا، واصطفافات وزعزعة لنظريات ونظم تجارية وإعلامية.. إلخ.
قد يحدث التأثير بعد يوم أو بعد شهر أو سنوات، لكن لا أحد يجرؤ على مساءلة الفراشة حول الوقت والتأثير، أو إقناعها بأن لا تطير أو حتى تترفق بالعالم، أو أن الظرف غير ملائم للطيران.
لنتذكر أن الفراشات مخلوقات رائعة بألوان زاهية، ومن حظ العالم أن متوسط أعمار معظم الفراشات لا يتجاوز أسبوعين. مع ذلك، فإن أثر الفراشة لا يزول.
مفكر عربى من الإمارات
الاقتباس
لنتذكر فى هذا الإطار «معظم النار من مستصغر الشرر»، تلك النظرية الفلسفية والفيزيائية، المسماة بـ«أثر الفراشة»، والتى أطلقها عالم أرصاد أوروبى فى العام 1963، وقال ما معناه: «إن رفرفة جناح فراشة فى غابات الأمازون، يمكن أن تتسبب بعد وقت، فى حدوث إعصار فى تكساس».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved