طعم الكلام ماذا تقول أيها الممثل؟!
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 20 أبريل 2024 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
أسوأ ما يمكن أن يحدث فى فن التشخيص ألا تفهم جمل الحوار التى ينطق بها الممثل، فلا تسمع سوى أصوات مدغمة ومضطربة، لا علاقة لها بتعبيرات وجهه، أو بطبيعة انفعالاته. هذا خلل فادح فى الأداء، مصدره الجهل بفن الإلقاء، أو مشكلات فى جهاز الصوت، أو خلل فى التدريب الصوتى، أو انعدام هذا التدريب من الأساس.
شاهدت منذ فترة أفلامًا روائية قصيرة مصرية، فى إطار برنامج خاص عرضته سينما «زاوية»، وأزعجنى جدًا أن ألمس هذا الخلل فى عدد من تلك الأفلام، إلى درجة أننى لم أكن أعرف ماذا يقول الممثلون الناطقون بالعربية، فكنت ألجأ إلى الترجمة الإنجليزية على الشريط، لتعويض ما فاتنى من جمل وحروف!
تخيل أن أفعل ذلك رغم أن الأفلام باللهجة المحكية البسيطة والمألوفة، والتى نسمعها فى الشارع، ونستخدمها فى حياتنا اليومية، فكيف سيكون الحال -مثلًا- لو كان الفيلم ناطقًا باللغة العربية الفصحى؟!
بعض هؤلاء الممثلين كانوا يتحدثون العربية فى الأفلام بلكنةٍ أجنبية، وكأنك أمام خواجة يتعلم العامية المصرية، أو كأنك أمام إكرام هانم نيروز (بهيجة حافظ) فى فيلم «القاهرة 30»، تلك السيدة الأرستقراطية التركية التى تلقى خطبة بالعربية المهشّمة، والتى أصر صلاح أبوسيف، مخرج الفيلم، على أن يكتبوا لها الخطبة بالعربية، ولكن بحروف لاتينية، حتى تقرأها بهذه الطريقة المتعثرة.
هناك مشكلة حقيقية ألمسها حتى فى الأفلام الطويلة، التى يقوم ببطولتها محترفون، وبعضهم من النجوم الموهوبين جدًا، حيث تظهر كوارث واضحة فى الإلقاء، فينطقون الضاد دالًا، والصاد سينًا، والقاف كافًا، وتسيح لديهم الكلمات، فتتصل نهايتها ببدايتها دون فواصل، وبسرعة عجيبة، فلا تسمع أو تفهم شيئًا، ناهيك عن غرابة ما ينطقون به من عبارات، فلا هى عامية ولا فصيحة ولا أجنبية، وإنما هى همهمة وبرطمة وهلضمة، تليق بكائنات فضائية.
لو رجعت إلى أفلام الأبيض والأسود، لن تجد أبدًا هذه المشكلة، مهما كان حجم الدور، ومهما كانت طبيعة الأداء (كوميدية أو تراجيدية). يمكنك مثلًا أن تسمع مخارج ألفاظ إسماعيل ياسين، وهو كوميديان كان يتلاعب بالألفاظ أحيانًا ليضحك الجمهور، لتجد أنها مخارج باذخة الوضوح، حتى وهو يلقى نكتة، لا يمكن أن تسأله: ماذا تقول يا رجل؟
وكنت وما زلت أعتقد، أن فؤاد المهندس، الكوميديان العظيم، من أفصح ممثلينا، وكان برنامجه «كلمتين وبس» درسًا يوميًا فى الإلقاء، وفى الأداء الصوتى الفذ، تدفقًا وسكوتًا، وارتفاعًا وانخفاضًا، ووضوحًا فى مخارج الحروف، وأعتقد أنه كان يجب استغلال المهندس فى تقديم دروس فى اللغة العربية (فصحى ومحكية) لغير الناطقين بها.
ربما يرجع ذلك إلى التأسيس الجيد لهؤلاء الممثلين فى المدارس، وإلى البدايات المسرحية لممثلى زمان، بينما نفتقد اليوم دور المدرسة، ودخلت على الخط مدارس اللغات الأجنبية، التى لا تُعنى عناية كافية باللغة العربية، ونفتقد فى كثير من الوجوه السينمائية التأسيس المسرحى، أو أنهم يبدأون من المسرح المكتوب باللغات الأجنبية، فلا تستقيم حروفهم وألفاظهم العربية.
كل لغة، وليست العربية وحدها، لها طرق أداء، وجرس موسيقى، ومخارج حروف، فهل يمكن مثلًا أن تتوقف لتسأل نفسك عن مخارج ألفاظ توم هانكس أو براد بيت وهو يتكلم الإنجليزية على الطريقة الأمريكية؟
هناك مصريون حفظوا أغنيات هندية مباشرة من الأفلام لوضوح ألفاظها دون أن يفهموا معانيها. بينما يتوهم كثير من الشباب أن التشخيص مجرد تعبيرات على الوجوه والعيون، دون أن نبدأ أولًا من التعبير الصوتى، وهو توهم خاطئ الإلقاء وتدريباته، ومعرفة اللغة ومفرداتها وجرسها، كل ذلك هو نقطة البداية، والمادة الأولى للتشكيل وللتعبير.
والأداء الطبيعى، والاقتراب من واقعية الحوار، والطريقة العادية فى الكلام، لا تعنى أبدًا البرطمة، أو غموض النطق أو اضطرابه، فالخواجة بيجو (الممثل فؤاد راتب)، وهو شخصية تضحك الجمهور أصلًا لاضطراب نطقها الخواجاتى للهجة المصرية، كانت مخارج ألفاظه سليمة.
فن الإلقاء أساسى فى إعداد الممثل، وأرى أنه يجب تعليمه فى ورش التمثيل، وفى كل كورسات إعداد الممثل، وأرشح دومًا لأى ممثل مبتدئ كتاب «فن الإلقاء» الصادر عن هيئة الكتاب، للفنان عبد الوارث عسر، من أجل التعلم والتدريب على هذا الفن. يقول الفنان الكبير إن الإلقاء هو: «فن النطق بالكلام على صورة توضح ألفاظه ومعانيه»، ويقدم للقارئ تاريخ هذا الفن عند العرب، وعند الأوروبيين، ويتوقف بالتفصيل عند قواعد النطق ومخارج الألفاظ وصفاتها، ويقدِّم شرحًا وافيًا لطريقة الأداء، باستخدام السكتات، والتركيز، أى بالضغط على كلمة بعينها، أو على مقطع ما فى الكلمة، وبالتحكم فى سرعة الإلقاء (التمبو).
لو قرأت الكتاب لعرفت مخارج الحروف الخمسة، فهناك حروف تخرج من الجوف (حروف المدّ؛ مثل الألف والياء والواو)، وحروف تخرج من الحلق (كالهمزة والهاء والخاء)، وحروف تخرج من أقصى اللسان (كالقاف والكاف)، وحروف تخرج من الشفتين (كالفاء والباء)، وحروف تخرج من الخيشوم أو من داخل الأنف (مثل امتداد صوت الميم، وصوت النون).
يعرِّفك الكتاب على صفات الحروف: الحروف الرقيقة، والحروف المفخّمة (كالخاء والصاد والضاد)، وعلى همزات الوصل والقطع، وعلى الحروف القوية (كالضاد والدال)، ويعرّفك على معادن الأصوات (رجالية ونسائية)، ويشرح مصطلحات، مثل الباص والباريتون والتينور والألتو والسوبرانو.
يحدثك أيضًا عن عيوب الأصوات، وكيفية علاجها، سواء كانت أصواتًا معدنية نحاسية، أو أصواتًا مرتعشة، أو أصواتًا أنفية خنفاء، أو أصواتًا حلقية تشبه الغرغرة. وفى الكتاب نماذج لتمريناتٍ عملية على الإلقاء، وفصل عن الشخصية والسلوك والإدراك، لارتباط كل ذلك بالتعبير، وضبط الإلقاء.
لقد تعلمت سناء جميل، خريجة المدارس الفرنسية، التمثيل بالعربية الفصحى، حتى أجادته، وتدربت فاتن حمامة طويلًا، للتخلص من لدغتها فى حرف الراء. التعلّم ليس عيبًا أيها الممثل.. العيب ألا يفهم المتفرج ما تقول!