كيف نحقق العدالة الاجتماعية.. دون ألم؟

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الثلاثاء 20 مايو 2014 - 5:15 ص بتوقيت القاهرة

هل يتصور القارئ الكريم أنه من الممكن أن يأتى إليه شخص ليقول له إنه يستطيع أن يلخص حالة العدالة الاجتماعية (أو الظلم الاجتماعى) فى مصر، أو حالة المساواة أو عدم المساواة فى رقم واحد مثل 30.7 ٪ أو أن يقول إن مصر حققت تقدما نحو العدالة الاجتماعية (أو نحو المساواة) فيما بين سنة 2000 وسنة 2009 (أى فى أواخر عهد مبارك) بدليل انخفاض هذا الرقم من 36.1 ٪ إلى 30.7 ٪؟

هل هذا معقول؟ أليست مشكلة العدالة والظلم الاجتماعى بل والمساواة وعدم المساواة، أعقد بكثير من أن يكون من الممكن تلخيصها فى رقم واحد أو رقمين؟ إذا أصابك العجب أيها القارئ الكريم، فلتعلم أن هذا هو ما يفعله الاقتصاديون الأكاديميون منذ فترة طويلة عند تناول مشكلة بهذه الأهمية، وأن هذا هو ما فعله مؤخرا اقتصادى إيطالى يشغل منصبا كبيرا فى البنك هو منصب الإخصائى الأول فى قضايا الفقر بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وقد سمعته بأذنى يقول مثل هذا فى ندوة عقدت فى الأسبوع الماضى بكلية الاقتصاد فى جامعة القاهرة، لمناقشة كتاب صدر عن البنك الدولى فى هذا العام، وكتبته مجموعة من الاقتصاديين برئاسة هذا الاقتصادى الإيطالى.

إنى لا أستريح عادة لمواقف البنك الدولى من مثل هذه الأمور، وهذه ليست المرة الأولى (بأى حال) التى أجد فيها دراسة للبنك الدولى تقلب الأمور رأسا على عقب، وتسبغ درجة عالية من الوجاهة والوقار على نتائج بعيدة عن الحقيقة. ولكنى أحتاج من حين لآخر للنظر إلى ما يجمعه وينشره البنك من أرقام (فكثير منها مهم ومفيد)، وأحاول أن أتغاضى عما يعطيه البنك لهذه الأرقام من تحليلات وما يستخلصه من نتائج، فقد علمتنى خبرتى السابقة مع منشورات هذا البنك أنه لا يتعاطف فى الحقيقة مع الفقراء بل مع أصحاب رءوس الأموال (مهما زعم بغير ذلك)، ولا يهمه انتشار الفساد طالما كانت الشركات الكبرى راضية عنه، ولا يقلقه غياب العدالة، طالما أنها لم تصل إلى تهديد ما يسمى بـ«الاستقرار»، أى استمرار هذه الشركات فى تحقيق ما لها من امتيازات.

ومع هذا فقد أصابتنى دهشة مضاعفة عندما سمعت الكلام الذى ألقاه الاقتصادى الإيطالى منذ أيام عن المساواة والعدالة فى مصر، ثم قرأت الكتاب الذى يتضمن هذه النتائج.

نعم العدالة الاجتماعية والمساواة واللامساواة لها علاقة بالطبع بما يحصل عليه الأغنياء بالمقارنة بما يحصل عليه الفقراء، ولكن هذه العلاقة متشعبة جدا وذات جوانب كثيرة ومتنوعة، مما لا يمكن ان يتصور امكانية تلخيصها فى كلمة أو رقم واحد. إن هذا الرقم المستخدم يطلق عليه اسم فخم ترجمته بالعربية «معامل جينى» (Gini Coefficient)، وأنا أصفه بالفخم لانه مستخلص من معادلة رياضية، ولابد أن نعترف بأن المعادلات الرياضية لا يزال لها سحر ومفعول خاص لدى معظم الناس فى العصر الحديث، الذى لم يكتشف بعد أن الأرقام (أى أرقام) لا يمكن أن تكون أفضل من الشخص الذى يقوم بحسابها، وأقصد بذلك أن الأرقام تعبر عن نوع اهتمامات الشخص الذى قام بجمعها وحسابها، وعن تخيراته الشخصية أو الطبقية، ناهيك عن أوجه قصوره وفهمه.

هذا الرقم (معامل جينى) يعبر عن حجم الفجوة الموجودة بين مجموع الأنصبة التى تحصل عليها (أو ينفقها) طبقات أو شرائح المجتمع المختلفة، أغنياء وفقراء ومتوسطو الدخل، وبين ما كانوا ليحصلوا عليه (أو ينفقونه) لو تحققت المساواة الكاملة (أى لو كان كل 10 ٪ من السكان مثلا تحصل على 10 ٪ من الدخل القومى، لا أكثر ولا أقل). إذن فكلما زاد حجم هذه الفجوة (أى كلما ارتفع معامل جينى)، كان المجتمع أبعد عن المساواة (ومع بعض التجاوز، أبعد أيضا عن العدالة).

قد تبدو هذه الطريقة لا غبار عليها للوهلة الأولى، ولكن هل تعرف أن الرقم المستخدم للتعبير عما تحصل عليه (أو تنفقه) شريحة اجتماعية معينة هو فى الحقيقة ما تقول أو تدعى هذه الشريحة أنها حصلت عليه (أو أنفقته)، وليس بالضرورة ما حصلت عليه (أو أنفقته) بالفعل؟ وهل تدرك أن الطبقات العليا كثيرا ما تحصل على دخول لا تريد الإفصاح عنها، ولا توجد أوراق تدل عليها، لأنها كثيرا ما يكون مصدرها غير قانونى أو غير أخلاقى؟ وهل تدرك أن ما يحصل عليه الشخص (أو حجم إنفاقه) لا يدلك بالمرة على حجم العبء، الذى تجشمه للحصول عليه ولا يدلك مثلاً على عدد الساعات التى اشتغلها للحصول عليه ولاعدد أفراد الأسرة التى اشتركت فى العمل من أجل الحصول عليه؟ هل تدرك أيضا أنه إذا أظهر الرقم ارتفاعا فى حجم انفاق الفقراء على سلعة أو خدمة فإن هذا لا يعنى بالضرورة تحسنا فى أحوال الفقراء، إذ إنه لا يخبرك بما إذا كان قد حدث انخفاض فى جودة هذه السلعة أو الخدمة، فإذا اجتهد الفقراء مثلا وحصلوا على دخل أكبر من أجل أن يتمكنوا من انفاق مبلغ أكبر على الدروس الخصوصية لأولادهم وبناتهم أو لشراء عدد أكبر من أرغفة الخبز، فإن هذا الرقم لا يقول لك إن هذه الزيادة فى الانفاق قد اقترنت بانخفاض مستوى التعليم فى المدارس الحكومية أو بتدهور حالة الرغيف، بينما لم يواجه الأغنياء هذه المشاكل لأنهم لا يأكلون هذا النوع من الخبز ولا يذهب أولادهم إلى ذلك النوع من المدارس؟
ثم هل يعقل ان محاضرة كاملة (وكتابا كاملا) عما حدث للعدالة الاجتماعية (أو عدم المساواة) فى مصر لا يتضمنان ولو مرة واحدة كلمة «الفساد»؟ الفساد لا ينطوى فقط على ارتفاع دخول وانفاق الأغنياء (وعلى حساب الفقراء غاب) بل معناه أيضا أن هذا الارتفاع لابد أن يجرى إخفاؤه عند حساب الأرقام لأن المستفيدين منه لا يريدون الإفصاح عنه واللامساواة الناتجة عن الفساد أكثر إيلاما للفقراء من غيرها، فالمصريون مثلا لديهم استعداد لقبول درجة عالية من اللامساواة ولكنهم لا يطيقون الظلم والفساد. هل يعقل أيضا أنه لم ترد فى المحاضرة ولو مرة واحدة كلمة «البطالة»، وكأن زيادة البطالة فى مصر طوال العشرين عاما الأخيرة من عهد مبارك لا أثر لها فى درجة العدالة الاجتماعية أو فى حدة الشعور بالظلم الاجتماعى، أو كأن المتطلبين قد أخذ رأيهم عند جمع الإحصاءات فوصفوا حالهم ومشاعرهم بالضبط لجامعى هذه الأرقام.

لقد ذكرت بعض هذه الملاحظات أثناء النقاش الذى أعقب المحاضرة، وختمت قولى باقتطاف أستاذة عظيمة للاقتصاد فى جامعة كامبريدج (جون روبنسون)، وكانت معروفة بتعاطفها الحقيقى مع الفقراء، إذ قالت مرة أثناء الحديث عن مخاطر استخدام المعادلات الرياضية فى البحوث الاقتصادية أنها أحيانا تقول لزملائها الرياضيين فى جامعة كامبريدج إنه «آن الأوان لهم أن يكفوا عن الحساب ويبدأوا فى التفكير!».

لم يعجب كلامى بالطبع أستاذة مصرية شاركت فى القيام بهذا البحث، وعبرت عن استيائها بالقول بأن (معامل جينى) هو الطريقة الوحيدة المتاحة لنا لقياس العدالة أو عدم المساواة فى توزيع الدخل، ومن لديه طريقة أفضل هذا القياس فليدلنا عليها بدلا من مجرد النقد. وقد ذكرنى قولها هذا بقصة جحا الذى زعم مرة أنه قام بعد النجوم فى السماء ووجد عددها مليونا وخمسمائة ألف ومائتين وأربعة وعشرين نجما. فلما احتج عليه البعض، قائلا «إن هذا مستحيل يا جحا» قال له جحا: «على من لا يصدق ما أقول أن يقوم بعد النجوم بنفسه!».

لقد كان أرسطو مصيبا عندما حذرنا من أن نطلب درجة من الدقة فى التعبير عن بعض الأمور أكبر مما تسمح به طبيعة هذه الأمور، كما نبهنا آخرون إلى الفكرة نفسها، بالقول بأن التعبير عن الحقيقة بالتقريب أفضل من أن نخطئ بمنتهى الدقة!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved