حاول ألا تحاول

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 20 مايو 2015 - 10:15 ص بتوقيت القاهرة

جهد اللحظة الأخيرة غالبا ما يضر أكثر مما ينفع. هذا ما أقنعتنى به التجارب. يضر لأنه يتسبب فى توتر، أو مزيد منه. وحتى إذا عاد منه نفع فقليل يكاد لا يذكر. لم أكن سمعت أو قرأت عن هذا الموضوع عندما ذاع عنى فى أوساط العائلة وزملاء المدرسة وأصدقاء الحى أننى أتوقف عن «المذاكرة» قبل موعد الامتحان بأيام. أقضى هذه الأيام على الشاطئ فى الإسكندرية وفى المسارح ودور السينما أو مستلقيا على ظهرى أقرأ رواية طويلة لأجاثا كريستى أو قصصا قصيرة لآرثر كونان دويل. كنت بالفعل أشعر أن جهدا إضافيا فى المذاكرة لن يضيف إلى ما حفظت أو فهمت، وبالتأكيد سيطيل من حالة التوتر التى تصاحب مراحل المذاكرة واقتراب مواعيد الامتحان. تصورت فى ذلك الحين أنها ربما كانت حالة خاصة لا يصح توجيه النصح للرفاق فى المدرسة والجامعة لتقليدها، حتى جاء وقت صرت فيه متيقنا من أن هذه الممارسة تصلح لمواقف وظروف عديدة وليس فقط لموقف انتظار الامتحان.

•••


سمعت أخيرا أنهم ينصحون الشباب بأن يمتنع عن بذل أى جهد إضافى فى الساعات القليلة السابقة على إجرائه مقابلة للحصول على وظيفة. سمعتهم أيضا وهم ينصحون أصحاب الطموح الوظيفى والسياسى، مثل الراغبين فى الحصول على ترقية أو المرشحين للتعيين فى وظيفة أو تولى منصب قيادى بأن يتفادوا قدر الإمكان «إظهار» علامات الولاء والإخلاص، والامتناع عن المبالغة فى سرعة الإنجاز وأداء المهام والتزام القواعد والأوامر والتوجيهات، عملا بالحكمة التى عثر عليها علماء الآثار فى مقبرة صينية تنتمى إلى القرن الرابع قبل الميلاد وتضم رفات كبار موظفى الدولة، وجدوها مسجلة على لوحة من خشب البامبو، تقول نصا «إذا حاولت بذل الجهد لتكون مخلصا فأنت فى الحقيقة غير مخلص. وإذا حاولت بذل الجهد لتكون مطيعا، فهذه ليست الطاعة. لا تحاول بذل جهد، ولكن أيضا لا تحاول». (إنها بحق الحكمة المعضلة).

•••

الحالة الطبيعية للإنسان هى أن يكون مخلصا ومطيعا وأمينا فى عمله وصادقا مع رؤسائه وزملائه، فإن هو بذل جهدا ليثبت أنه بالفعل كذلك، فقد يتسبب فى إثارة شكوكهم حول صدق نواياه وحول طبيعته التى يفترض أنها خيرة وطيبة. ومع ذلك، فإن هذا الحرص على أن يكون على طبيعته لا يمنعه من أن «يحاول» المحافظة على هذه الخصال.

أسمع مثلا أنه لا يجوز أن يستمر لاعب الرياضة فى التدريب وبذل الجهد لكسب السباق أو المباراة حتى وقت قصير من ساعة الانطلاق، بل يجب أن يتوقف ويهدأ ويسمح لعضلاته وأعصابه بالارتخاء، حتى يزول عنه التوتر الذى لا شك يصاحب كل متسابق أو لاعب. أسمع أيضا أن هناك فى مصر من يفضل الأخذ بنظام للامتحانات يرفع عن الطالب التوتر والاضطراب الناتجين عن ضيق الوقت المحدد للإجابة، وقيود ورقابة المراقبين. هؤلاء يفضلون الامتحان المفتوح الذى يكشف عن حقيقة قدرات الطالب فى استيعاب المادة وحسن التصرف وابتكار هيكل متسق ومتكامل للإجابة. أذكر أن أساتذة لى من الأجانب جربوا معنا تنفيذ فكرة تقضى بأن يضع الطالب السؤال ويجيب عنه خلال أربعة وعشرين ساعة مستعينا بما شاء من كتب ومقالات ومحاضرات. كان القصد من التجربة هو إشاعة جو الثقة ورفع «الكلفة بين الطالب والأستاذ» وإزالة التوتر الناتج عن أسابيع من المذاكرة المكثفة.

•••

تنطبق النصيحة، أو الحكمة المعضلة، الموروثة عن الفيلسوف الصينى كونفوشيوس وأتباعه، على كل شاب ينوى مقابلة أهل معشوقته ليطلب يدها منهم. لا تحاول بذل جهد إضافى أيها الشاب، اذهب إليهم بحالك وحالتك الطبيعية، لا تستعد للمقابلة بعبارات ليست من صنعك ولا تستعن بتجارب من سبقوك. عبر عن شعورك ورغباتك واشرح أحوالك كما هى فى الحقيقة وليست كما صنعتها بعد تحضير طويل وجهد عصبى كثيف.

كم من فتاة وصبى، أو امرأة ورجل، قضيا الليالى يعدان نفسيهما لأول لقاء بينهما، كم من عيون تورمت من السهر وأعصاب انفرطت وثقة بالنفس تراوحت بين الانهيار والغرور فى جهود متصلة ومؤلمة استعدادا لأول لقاء. اللقاءات الناجحة التى أعرفها كانت فى أغلبها تلك التى لم يبذل فى الإعداد لها جهد يذكر، وربما لم يعلما سلفا بإمكان وقوعها. اللقاءات الفاشلة، أكثرها كان بسبب المبالغة فى الجهد الذى بذل فى الإعداد لها وقدر التفكير والتأنق فى الملبس والسلوك واختيار الكلمات وتأليف الروايات عن ماض لم يقع ومستقبل لم تظهر بعد تباشيره.

•••

كم من خطيب أو محاضر، ألقى خطابه أو محاضرته، بعد سهر طويل وجهد مكثف. قضى أياما يقرأها لنفسه أمام مرآته أو امرأته ويعيد قراءتها ويشكل حروفها، ثم يفاجئه جمهور بدأ يتثاءب فى مطلعها وينشغل بالهاتف الذكى فى منتصفها وينام فى آخرها. وكم من خطيب أو محاضر، استعد بأفكار هامة وببعض النوادر والحكايات الخفيفة وبحكايات من ذكريات وتجارب شخصية سابقة، ثم راح يلقى محاضرته بدون الاستعانة بأوراقها ومستنداتها، فلفت اهتمام الجمهور بجاذبية الإلقاء وحضوره الواثق وأهمية الموضوع.

•••

يعيد ادوارد سلنجرلاند Edward Slingerland الأستاذ بجامعة كولومبيا البريطانية فى غرب كندا مناقشة «الحكمة المعضلة» من تراث الصين القديم فيقول «كيف يمكن للإنسان أن (يحاول ألا يحاول)، بمعنى آخر كيف يمكن أن يعمل بدون جهد ليحقق إنجازا أفضل؟. يحاول الإجابة عن السؤالين «فن وعلم التلقائية»، الذى يدرسه ويدافع عنه الأستاذ إدوارد. يقول مثلا إن الإنسان البدائى عندما انضم إلى مجتمع إنسانى وافق على الالتزام بمجموعة قواعد للتعايش الآمن والتكافل الاجتماعى، هذه القواعد صارت بطول الممارسة هى الأساس لمنظومة أخلاق الإنسان الطبيعى.

الإنسان ليس فى حاجة لتأكيدها فى كل مرة يقدم فيها على إنجاز عمل. لقد ابتكر الإنجليز، فى كتاباتهم وأنظمة عملهم وتراتيبهم الطبقية، هذا النموذج للإنسان الطبيعى وأطلقوا عليه «الجنتلمان». ليس مطلوبا من «الجنتلمان» أن يؤكد لمرؤوسيه أو رؤسائه إخلاصه واحترامه للآخرين. كتب كونفوشيوس عن شخصية هى أقرب شىء ممكن لشخصية الجنتلمان الإنجليزى وأطلق على من يمتلك صفاتها «صاحب النعمة والحكمة». رجل يبذل جهدا ليصل إلى هذه المكانة الكبيرة فى المجتمع، ولكنه ليس بحاجة لجهد كبير للاستمرار فيها. هو ليس بحاجة ليثبت كل يوم لمن حوله أنه جدير بمكانته.

يا أصدقائى من الجنسين، حاولوا بكل الجهد الممكن «ألا تحاولوا» بين كل حين وآخر أن تثبتوا لغيركم جانبا من خصالكم الطيبة أو درجة من كفاءتكم أو قدرا من إخلاصكم وصدقكم، فمع كل محاولة إثبات تفقدون شيئا من ثقتكم بأنفسكم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved