ترف يشعرنى بالخجل

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 20 مايو 2020 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

الآن وقد شارف شهر رمضان على الانتهاء، وبعد أن استنفدت كل ما أملكه من وصفات فى محاولة للتمسك بحياة طبيعية، الآن وقد دخل الصيف بموجة حر غير متوقعة، وبعد أسابيع قضيتها فى العمل ومتابعة دراسة أولادى وفى الاستمرار بالطبخ بشكل يومى، وبعد مكالمات طويلة مع أصدقاء لم أرهم منذ مدة، الآن وبعد لقاءات افتراضية مع من أشتاق إليهم عبر الشاشة، الآن ماذا أفعل؟
***
ماذا بإمكانى أن أفعل حتى أتغلب على الضجر والملل والخوف من المجهول؟ ما هى الأساليب التى ما زالت فى جعبتى أخرجها حتى أضع حدا لأسئلة تدور فى عقلى حول الحياة بصبغتها الجديدة، وحول التباعد كما فرض نفسه على العلاقات؟ ما هو هذا العادى الجديد الذى سوف يجبرنى على ترك مسافة مع الآخرين، بينما يعيد إلى أشخاص ابتعدت عنهم كل البعد فى السنوات الأخيرة؟ كيف أعيد الغطاء على وعاء فى ذاكرتى أحكمت إغلاقه حتى لا أرى ذكريات فى داخله؟ لماذا يعودون إلى الآن؟
***
يخنقنى العادى الجديد، يفرض علىَّ شروطا للتواصل مع من أحب، يحد من قدرتى على التحكم بحياتى، يمد العادى الجديد حبالا من حولى فيجبرنى على البقاء فى الكرسى، أستطيع أن أحرك أصابعى وأن أميل بوجهى يمينا ويسارا لكنى أمد يدى فلا أصل لأمى فى بلد آخر ولا أصل إلى أصدقائى حيث أعيش.
***
مرت الأسابيع الأولى من الجائحة وما جاء معها من أسلوب حياة فرضته الحكومة جزئيا وتبنيته مع عائلتى إلى حد كبير عن اقتناع، مرت الأسابيع الأولى فأعدت اكتشاف علاقتى مع أفراد عائلتى المباشرة بمنأى عن العالم الخارجى، هكذا ودون قرار واعٍ منى، دخلت فى أحاديث مع أطفالى عن الحياة والموت والمرض والعلاقات الإنسانية وحديث عن جدوى الدراسة والعمل فى ظل عدم الوضوح فى الخارج.
***
يوما بعد يوم تداخلت نقاشات العمل عبر التطبيقات والشاشة مع النقاشات الخاصة مع عائلتى، دخل صوت زوجى على موضوع إشكالى فى العمل وسألنى ابنى عن تقاسم الثروات فى العالم فهو بدأ يكتشف أن ثمة عدم تساوى ظالم بين الناس وبين البلاد، يوما بعد يوم فى الحجر دخل عملى على حياتى الخاصة فها أنا أعد طعام الإفطار بينما أستمع إلى زملائى يناقشون أثر الإغلاق على توزيع المساعدات الإنسانية على اللاجئين، أعجن الحلوى بينما أستمع إلى آخر أخبار ضرورة تعقيم المكتب، أسحب صينية من الفرن على نغمة صوت زميل يشكو من قلة التمويل لبرنامج يديره ويعنى بذوى الاحتياجات الخاصة.
***
التناقص فى كل مكان، الفرق بين من لديه ومن ليس لديه، بين من يحصل قوت يومه ومن هو معلق فى الهواء، أنا نفسى أخبز الحلوى على خلفية حديث يصلنى عن الجوع فى مخيمات النزوح، أعمل من بيتى وأتواصل مع زملائى من داخل بيت رائحته طبخة يومية أجتمع حولها مع عائلتى تحت سقف يحمينى وها أنا أتأفف من الملل، أهذا ترف يجب أن أخجل منه؟
***
أنا فعلا أخجل من تأففى إنما يخنقنى المجهول، أعرف أن البقاء فى البيت مع عائلتى نعمة يجب أن أقدرها، لكنى أجلس اليوم أمام شاشتى مع إصرارى على تقدير النعمة ويخنقنى شعورى بالبعد والشوق، تظهر أمامى تفاصيل لم أكن أصلا واعية أن ذاكرتى قد خزنتها، أمر مثلا أمام محل فى الحى القاهرى الذى سكنته سنوات طويلة، هو محل لا يعنينى كثيرا ولم أشتر منه ربما قط إنما كنت أمر من أمامه قبل أن أنحرف بقدمى يسارا إلى شارع جانبى يأخذنى إلى بيتى، أسلم على عم محمد بضحكته المشرقة، كان يقف أمام روضة الأطفال التى لم يدخلها أولادى ولا يربطنى بها شىء سوى ضحكة عم محمد وها هو يظهر لى فى بيتى فى عمان ويلوح بيده من بعيد «صباح الفل يا أستاذة كل سنة وحضرتك طيبة».
***
أنا الآن فى بيت من البيوت الكثيرة التى سكنتها خلال سنوات من الترحال، لم أتعرف على زوجى بعد، أجلس على كنبة فى مواجهة الشباك أتساءل إن كنت سوف أتعرف عليه يوما، تقفز ابنتى بوجهها المشع كالقمر فتبعد عنى ظلام لحظة كنت قد نسيت فيها أن لى عائلة، كانوا قد اختفوا جميعا وأنا عدت إلى بيت سكنته وحدى، تتداخل حيواتى وتظهر وجوه لم أرها منذ سنوات وأنا أجلس هنا، فى الحجر، دون تواصل مع العالم الخارج سوى عن طريق الشاشة.
***
الحياة قبل الثورات والحياة بعدها، اليوميات قبل كورونا وخلالها، التفاصيل قبل الأولاد ومعهم، الوجوه قبل الجفاء والبعد ودون عتاب، أمد يدى فى محاولة لأن أنتشل نفسى قبل أن أقع، هل الحزن ترف؟ هل الشعور بالتخبط يقلل من الاعتراف بالنعمة؟ هل من المسموح أن أضع يدى على حائط حتى لا أذوب فى الشمس فاحتمى بظله ريثما ألتقط أنفاسى من جديد؟ أنا ممتنة للعناية الإلهية وللحياة عموما وأعرف كم رأفت بى الدنيا حتى أثناء الصعوبات، لذا فأنا أشعر بترف أن يخنقنى الضيق اليوم، لكن فى العادى الجديد الذى اكتسبته فى الأسابيع الأخيرة، ها أنا أتعلم أن أتكيف مع الشعور بالعجز، وسوف أحاول ألا أخجل من ذلك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved