التلاعب بالتاريخ في القاهرة- كابول

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 20 مايو 2021 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

العلاقة بين التاريخ والإبداع تتميز بدرجة من المرونة تسمح للمُبدِع بأن يقدم رؤية بها بعض الاختلاف عن الأحداث التاريخية، وفي هذا الإطار نجد فيلمًا شهيرًا كفيلم أوغاد بلا أمجاد Inglorious Bastards يُقدِم علي تغيير نهاية حياة الزعيم الألماني أدولف هتلر من الانتحار إلي القتل بواسطة فرقة يهودية انتقامًا لما حاق باليهود علي يديه. لكن قدرة المُبدِع في هذا الشأن لها حدود، وهذه الحدود ترتبط بعدم التلاعب بالمراحل والوقائع التاريخية إلي حد الخلط الشديد، وبعضُ من هذا حدث في مسلسل القاهرة -كابول .
***
انطلق المسلسل من فكرة جيدة جوهرها صداقة العمر التي جمعت بين أربعة شباب عاشوا معًا في عمارة واحدة بحي السيدة زينب وتزاملوا في الدراسة، وسنضع جانبًا الفارق العمري الكبير (أكثر من عشر سنوات) بين هؤلاء الأصدقاء- الذين من المفترض أنهم كانوا في مراحل دراسية متقاربة- كما بين الصديقين خالد وعادل مثلًا، فهذه من التفاصيل الجزئية التي لا تتصل مباشرةً بفكرة المقال. المهم أن كل واحد من هؤلاء الأربعة اختار لنفسه طريقًا مختلفة عن الآخرين، فكان هناك المخرج والإعلامي والضابط والإرهابي، وكان يمكن لهذه القماشة، كما يقال، أن تساعد علي نسج عمل درامي مُحكَم من خلال متابعة تطور مسيرة كل شخصية من هذه الشخصيات الأربع. وفيما يخص شخصية الإرهابي، التي جسّدها طارق لطفي، فإنه كان بالإمكان لكاتب ممتاز يمتلك أدواته الفنية، هو عبدالرحيم كمال، أن يبنيها بعيدًا عن شخصية أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، لكن الكاتب اختار أن يعطي الإرهابي أو رمزي في مسلسل "القاهرة- كابول" نفس المواصفات الشكلية لبن لادن، فله ملامحه وطريقة كلامه ولبسه وهو مثله عاش في كهوف كابول وحارب الأمريكان وتفاهم معهم، وكانت نقطة الاختلاف الوحيدة بين الاثنين تكمن في الجنسية، فالأول سعودي والثاني مصري. وبالتالي تشكك المشاهد منذ البداية فيما جاء في تتر المسلسل عن أن "جميع شخصيات هذا العمل الفني من خيال المؤلف وأي تشابه بينها وبين الواقع هو محض صدفة"، فالتشابه لم يكن فقط بين بن لادن ورمزي لكنه كان أيضًا بين محمد الظواهري الرجل الثاني في تنظيم القاعدة والشيخ نمير الذي جسّد دوره في المسلسل سامح السيد. لكن لو توقف المؤلف بنا عند هذا الحد لأمكن لنا القول إن التشابه بين ملامح وظروف كلٍ من رمزي وبن لادن لا تجعلهما بالضرورة شيئًا واحدًا، فقد يكون رمزي هو أي قيادي كبير آخر في تنظيم القاعدة وليس بن لادن بالضرورة.
***
لكن المفاجأة جاءت عندما قرر عبد الرحيم كمال أن يجعل رمزي ينتقل من كابول إلي الموصل في العراق، ويعرض علينا مشهدًا حقيقيًا سبق أن رأيناه بعيوننا لدبابة تجوب شوارع الموصل وترفع العلم الأسود لتنظيم داعش، ثم بعد ذلك ظهر علينا رمزي وقد اعتلى منبر المسجد ليعلن عن قيام دولة الخلافة الإسلامية، وهذا أيضًا ما حدث علي أرض الواقع من جانب أبو بكر البغدادي، فتحوّل بذلك رمزي القيادي الكبير في تنظيم القاعدة إلي زعيم تنظيم داعش، وليس هذا التنظيم كذاك. يختلف تنظيم القاعدة اختلافًا كبيرًا عن تنظيم داعش وبين الاثنين ثأر ودماء، القاعدة تعطي الأولوية لمحاربة رأس الشر في العالم من وجهة نظرها: الولايات المتحدة، من منطلق أن هزيمتها تفتح الباب علي مصراعيه أمام بناء دولة الخلافة الإسلامية، أما تنظيم داعش فإنه يري البدء بتكوين نواة دولة الخلافة الإسلامية وهو ما فعله التنظيم في كلٍ من سوريا والعراق علي أساس أن توسيع دولة الخلافة يجعل من "فتح" ديار غير المسلمين أيسر. والتنظيمان يختلفان في علاقتهما مع السلطة القائمة، وفي درجة العنف المستخدم في عملياتهما الخارجية والداخلية فداعش أعنف بكثير من القاعدة إلي حد أن تندر البعض بعد ظهور داعش وتباكوا متهكمين علي زمن "الإرهاب الوسطي الجميل!!" على يد القاعدة. وحتي فيما يتعلق بالعلاقة مع الأمريكان فهناك وقائع محددة عن تعامل القاعدة معهم، أما كون داعش هو نفسه صنيعة الأمريكان فهذه فكرة شائعة لكن لا يوجد عليها دليل. لذلك كله فإن انتقال رمزي من كابول للموصل وتحوله من زعيم من زعماء القاعدة إلي زعيم داعش يثير علامة استفهام ويحتاج إلي تفسير.
***
أخطر من الخلط بين الشخصيات كان هناك الخلط بين التواريخ، ففي الحلقة التي تناولت انتقال رمزي من كابول إلي الموصل كانت تجري انتخابات مجلس الشعب في نوڤمبر وديسمبر عام ٢٠١٠، وذهبت بنا الكاميرا إلى القاهرة ونقلت لنا مشاهد حقيقية من الشارع المصري وقدمت لنا شهادات حيّة للناخبين علي تزييف العملية الانتخابية، ورأينا السيد صفوت الشريف ومن ورائه المهندس أحمد عز في غمار المعترك الانتخابي، ومن بعد جاء الاعتداء الإرهابي علي كنيسة القديسين بالإسكندرية أيضًا في ديسمبر عام ٢٠١٠. وبذلك فإن الكاتب جعل سقوط الموصل بيد داعش يتم بالتزامن مع انتخابات مجلس الشعب وحرق كنيسة القديسين في عام ٢٠١٠، بينما معلوم أن مدينة الموصل سقطت بعد أقل قليلًا من أربع سنوات علي هذا التاريخ، وتحديدًا في يونيو ٢٠١٤. هنا وجد المُشاهِد نفسه ينفصل شعوريًا- ودون إرادة منه- عن المسلسل لأنه لم يعد يصدّق أن ما حدث في المسلسل قد حدث، وذلك رغم عبقرية تمثيل كل طاقم العمل وخصوصًا المذهلة حنان مطاوع التي تمثل كما تتنفس، وأنا أخصّها بالذكر لأنها التي سافرت إلي رمزي في العراق ودخلت عرين الخلافة فكانت جزءًا من الحقيقة الموازية. ومع أن ما سأقوله ليس هو مربط الفرس في الموضوع إلا أن الثياب الملوّنة المبهجة لمنال أو حنان مطاوع في الموصل، وتباسطها مع الحرس الخاص للخليفة، ودخولها المطبخ وجلستها الحميمة مع رمزي وهو يتغزل فيها ويُسمعها الشعر، ذلك كله عمّق الشعور بالانفصال عن دولة الخلافة المهيبة. لكن اختصاص حنان مطاوع بالإشادة لا يقلل من التمكُن التام الذي كان عليه كل طاقم التمثيل: طارق لطفي ونبيل الحلفاوي وفتحي عبد الوهاب وخالد الصاوي ورشدي الشامي وشيرين وأحلام الجريتلي وأسامة أبو العطا .
***
بعد ثورة ٢٥ يناير استطاع رمزي أن يهرب من سجنه في مصر الذي استدرجته إليه المخابرات المصرية، ورأيناه يحّل ضيفًا علي أحد البرامج الفضائية مع زميلّي دراسته وهو يتكلم معهما بكل ارتياح، وذكّرنا رمزي في إطلالته الجديدة بشخصية طارق الزمر القيادي في الجماعة الإسلامية الذي أُطلق سراحه بعد الثورة وصار رئيسًا وياللعجب لحزب البناء والتنمية، وهنا دخلنا في سياق آخر. من المفهوم أن التنظيمات الإرهابية بعضها من بعض، ولو مددنا الخط علي استقامته لكانت البداية مع تنظيم الإخوان المسلمين وجهاز اغتيالاته السري، ومن الوارد أن يكون عبد الرحيم كمال أراد أن يوصّل لنا هذه الفكرة، وهو أمر مبرر، لكن ما هكذا تورد الإبل، وذلك أن اللقطات الحقيقية التي ظهرت في المسلسل حوّلت الخيال إلي واقع لكن هذا الواقع لا يشبه ذلك الذي عايشناه جميعًا من سنوات قليلة ونحن شهود عليه، ما هكذا أبدًا تورد الإبل .

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved