غالي شكري مؤرخا أدبيا وناقدا للشعر

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 20 مايو 2023 - 6:50 م بتوقيت القاهرة

ــ 1 ــ
وما زلنا فى رحلتنا مع نموذجٍ راق وناضج من نماذج نقد الشعر فى فترة شهدت حركة الشعر العربى الحديث تدفقا وإبداعا شعريا طوال فترة الخمسينيات والستينيات، ربما لم تتكرر بذات القدر والزخم والتنوع والحضور حتى وقتنا هذا.
وما زلنا مع غالى شكرى الناقد الفذ والمنظر السوسيولوجى ومؤرخ الفكر المصرى الحديث والمثقف الموسوعى الذى رفد المكتبة العربية بما يزيد على الخمسين كتابا مثّل كل منها إسهاما نظريا أو تطبيقيا مهما فيه عمق الرؤية وأصالة التحليل وغزارة المادة وتنوع زوايا النظر والمعالجة.

ــ 2 ــ
أما الكتاب الذى قدمنا إضاءة تعريفية مركزة بموضوعه فهو كتاب «شعرنا الحديث إلى أين؟» بمناسبة صدور طبعة جديدة منه عن سلسلة (كتابات نقدية) التى تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
وفى ظنى أن كتاب غالى شكرى يمثل قاعدة مثلث نقدى يتصل به ضلعان آخران (لتكتمل بهما أضلاع مثلث نقدى متمايز فى نقد الشعر العربى الحديث)؛ يمثلهما كتاب المرحوم الدكتور جابر عصفور بعنوان «ذاكرة للشعر» (الذى صدرت طبعته الأولى عام 2002 عن مكتبة الأسرة)، والكتاب الآخر الذى تكتمل به أضلاع المثلث كتاب المرحوم الدكتور صلاح فضل بعنوان «تحولات الشعرية العربية» (صدر فى العام ذاته عن مكتبة الأسرة أيضا).
وأظن أن من يقرأ الكتب الثلاثة فى سياق نقدى متصل؛ يمكنه الإمساك بصيرورة وتحولات حركة الشعر العربى الحديث منذ فورات إبداعه فى الخمسينيات والستينيات وارتباطه بالمشروع القومى العربى، ثم التفرعات والتشكلات التى نتجت عن تفتت وتشرذم هذه الحركة فى اندفاعها طيلة العقود التالية، وما جرى من انسحاب وانحسار وتقلص مساحات الإبداع الشعرى العربى وحضوره وجماهيريته لحساب أنواع أخرى (القصة أولا ثم الرواية).

ــ 3 ــ
وكتاب غالى شكرى فى هذا الإطار وبهذا المعنى يعد ــ من وجهة نظرى ــ من أهم ما كُتَب فى نقد الحركة الشعرية الحديثة (إن لم يكن الأهم فى تلك الفترة التى ظهر فيها الكتاب) ليس فقط بما عرض من تجارب شعرية متنوعة، واتجاهات فنية فى تشكيل القصيدة، وتأصيل نظرى وتصنيف موضوعى لاتجاهات هذه الحركة، بل أيضا يمكن اعتباره من زاوية أخرى فيما أتصور أهم جهد بحثى مرجعى سعَى إلى رسم خريطة نقدية كلية وشاملة لمسارات الحركة الشعرية العربية الحديثة، وتجلياتها الفنية وتنوعاتها الجمالية؛ حيث ناقش الكتاب بشكل عملى منهجى الخصائص الجمالية للتجربة الشعرية العربية فى ذروة توهجها واشتعالها فى الخمسينيات والستينيات، بتموجاتها وتشكلاتها التى اجتهد غالى شكرى ببصيرته النقدية النافذة وذائقته العالية فى استخلاصها.
وليس هذا كله فيما أعتقد مكمن القيمة المتجددة فى هذا الكتاب الذى ما زال ورغم مرور ما يقرب من خمسة وأربعين عاما على صدور طبعته الأولى (1968)، إنما أيضا باعتبار الكتاب نموذجا ممتازا للتطبيق النقدى للأصول النظرية لمنهج الواقعية الاشتراكية الذى يستند فى جذوره العميقة للنقد الماركسى وتجلياته فى درس الأدب والفن والإبداع عموما.
ولهذا فليس من المستغرب أن يكون هذا الكتاب تحديدا محل اهتمام الدارسين والباحثين فى الجامعات المصرية والعربية، وأن يكون موضوعا أيضا للدرس المنهجى الأكاديمى ومادة للأطروحات العلمية (الماجستير والدكتوراه) التى سعت إلى مقاربة جانب من جوانب الخطاب النقدى الشامل لغالى شكرى، من خلال تركيز النظر على تجربته الخصبة فى نقد الشعر العربى الحديث، ورسم مساراته، وتصنيف اتجاهاته، كما هو معلوم.

ــ 4 ــ
وكل من يقرأ الكتاب أو يتصفح فصوله، سيجابه غالى شكرى كما تعودناه وعهدناه فى كل كتبه منظرا أصيلا، وهو يحاول أن يستقصى سريان المؤثرات الغربية، ونواتج الاحتكاك الفكرى والأدبى بالثقافة الغربية، فى تجديد الحياة العربية والبحث عن حداثتها المفقودة فى الفكر والثقافة (وضمنا الإبداع والفن والأدب).
وقد حاول غالى شكرى أن يبحث عن الرافدين الأهم ــ من وجهة نظره ــ فى إمداد المبدعين والكتاب والشعراء معا بدماء «التجديد» و«التحديث»، فكان تأصيله للوجودية وأثرها فى الواقع العربى من ناحية، وكذلك للواقعية الاشتراكية من ناحية ثانية، وأخيرا المزاوجة بينهما من ناحية ثالثة، وفى هذا يقول غالى شكرى:
«ليست المزاوجة بين الوجودية والاشتراكية جديدة على الفكر العالمى الحديث، فبعد أن كان المفكر المجرى جورج لوكاتش يتساءل فى حزم «ماركسية أم وجودية؟» ويقرر الفرنسى جارودى «الوجودية فلسفة الاستعمار» ويكتب كانابا «الوجودية ليست فلسفة إنسانية»، كان المفكرون الوجوديون يردون التحية بعشرة من أمثالها... أضحينا نستمع إلى سارتر وهو يقول: إن الوجودية هى طريقة لفهم الماركسية، وإن الماركسية هى الصورة الثورية الوحيدة للعالم المعاصر..
ويؤكد غالى أن هذه المزاوجة ليست غريبة على الفكر العربى الحديث. فبعد أن تأثر فريق من شبابنا العربى المثقف منذ 1950 بالاتجاه الوجودى فى التفكير، أخذوا بعد أن طحنتهم الأزمة الاجتماعية خلال هذه الفترة فى البحث عن حل. فكانت الاشتراكية هى الحل الوحيد. لهذا السبب تأثر أولئك الشباب بتيار المزاوجة بين الوجودية والاشتراكية. أولا لأنه كان من العسير التخلص من «المزاج» الوجودى فى التفكير بعد الامتزاج الدموى لفلاسفتنا، ولأن الاشتراكية التى يزاوجون بينها وبين الوجودية ترفض الكثير من المبادئ الماركسية التى ترفضها الوجودية أيضا. أحمد حيدر فى كتابه «طريق الإنسان الجديد بين الحرية الاشتراكية» سار فى طريق التزاوج.

ــ 5 ــ
ويبدو جليا من النموذج السابق كيف يؤصل غالى شكرى الأفكار ويضعها فى سياقها التاريخى فى درس الظاهرة الأدبية «الشعر العربى»، وتحديد نقلاتها المفصلية وتطورها الفنى والجمالى والموضوعى على السواء.
أما على صعيد المعالجة النصية؛ فلم يترك الكتاب اسما مؤثرا من شعراء التجديد والحداثة فى تلك الفترة لم يمر به أو يقدم إضاءة نصية لنموذج أو أكثر من شعر هؤلاء؛ بدءا من تأسيسات حركة الشعر الحديث (هل نقول الحداثى؟!) على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأحمد عبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور وغيرهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved