يوم الأربعاء الماضى ١٤/٦ تلقيت اتصالا هاتفيا من الدكتور عادل غنيم شيخ المؤرخين المصريين أبلغنى فيه بأن جزءا جديدا من موسوعة القضية الفلسطينية قد صدر، وأنه ترك نسختى فى مقر الجمعية التاريخية كى أوفد من يتسلمها. تناقشنا فى المواعيد، ووجدت أنه لم يكن واثقا من أن موظفى الجمعية سيبقون فى مكاتبهم حتى نهاية الدوام لأن الخميس سيكون نهاية الأسبوع فضلا عن أن أجواء رمضان عادة ما تكون حافزا على الانصراف المبكر. ولأن يومى الجمعة والسبت عطلة لأغلب العاملين، لذلك فإنه فضل أن أبعث من يتسلم نسختى يوم الأحد، على أمل أن أطالعها خلال بقية الأسبوع، ثم نلتقى قبل عيد الفطر لكى أنقل إليه انطباعاتى عما قرأت.
انشغلت فى أمور أخرى صباح الأحد، ثم فوجئت باتصال هاتفى بعد الظهر من المناضل والمؤرخ الفلسطينى عبدالقادر ياسين الذى هو صديق لكلينا، أبلغنى فيه بأن الدكتور عادل توفاه الله عند الظهر. إذ كان فى زيارة لابنته فى بيتها وفاضت روحه هناك حين كان يهم بالمغادرة. إذ لم يعد إلى بيته، لكنه غادر دنيانا كلها عن ٨٣ عاما، قضى نصفها متفرغا للبحث والكتابة فى موضوع واحد هو قضية فلسطين.
رحل الرجل فى هدوء، مثلما عاش حياة هادئة فى الظل، إذ باستثناء تكريم محدود له، ومنحه جائزة الدولة التقديرية عام ٢٠٠٩، فإنه ظل منقطعا للقضية التى نذر نفسه لها، حتى خبر وفاته. لم تلتفت إليه وسائل الإعلام. ولم يعلم به سوى عدد قليل من أصدقائه وتلاميذه، الذين نعوه على مواقع التواصل الاجتماعى، كأنما شاءت المقادير أن يظل الشخص غائبا فى حياته ومماته، فى حين يبقى منه عطاؤه الكبير فى خدمة القضية الفلسطينية والأجيال التى تربت على يديه حين عمل أستاذا للتاريخ فى جامعة عين شمس وفى بعض الأقطار العربية الأخرى.
ذكر الدكتور غنيم فى تقديمه لموسوعة فلسطين أن هزيمة يونيو عام ١٩٦٧ هزته ودفعته إلى التفرغ للقضية الفلسطينية، وكان شغفه بها قد بدأ حين أعد رسالته للماجستير حول الحركة الوطنية الفلسطينية فى الفترة بين عامى ١٩١٧ و١٩٣٦، وقد انتهى من إعداد أطروحته فى عام ١٩٦٩. ثم واصل مشروعه فى رسالة الدكتوراه التى أعدها حول الحركة الوطنية الفلسطينية ابتداء من ثورة ١٩٣٦ وحتى الحرب العالمية الثانية التى انتهت عام ١٩٤٥، وبعد الدكتوراه التى حصل عليها عام ١٩٧٦، استمر فى أبحاثه وكتاباته حول القضية الفلسطينية التى ألف فيها ١٦ كتابا. كما أنه تولى إصدار موسوعة مصر والقضية الفلسطينية التى كان ينوى أن يدرس فيها مسار القضية حتى عام ١٩٧٣.
من متابعتى لسيرته وجدت أنه فى سن الثمانين كان يتكلم عن القضية الفلسطينية بروح شاب ممتلئ بالحيوية والحماس. وقد أجرى معه زميلنا الأستاذ كارم يحيى حوارا نشرته جريدة «الأهرام» فى ١٥ مايو عام ٢٠١٤. ذكر فيه أنه معارض لاتفاقيات أوسلو التى أضرت كثيرا بالقضية الفلسطينية، وقال إنه لا بديل أمام العرب والفلسطينيين سوى الكفاح المسلح، طالما فشلت كل الجهود التى بذلت لدفع إسرائيل للاستجابة لحقوق الشعب الفلسطينى. وإلى أن يتحقق ذلك فإن الانتفاضة تظل الخيار الوحيد المتاح أمام الفلسطينيين للتعبير عن رفضهم للاحتلال.
كان قد انضم إلى قسم التاريخ فى جامعة عين شمس منذ نحو أربعة عقود، لكن تخصصه فى القضية الفلسطينية فرض اسمه على كل محفل أو ندوة أو بحث يثار فيه الموضوع. حتى أزعم أنه شكل مدرسة للتنوير بالقضية وكشف مزاعم وأباطيل المشروع الصهيونى، وأدى دوره فى صمت مغلف بالتواضع النبيل. وحين استقال من رئاسة الجمعية التاريخية بعدما تقدمت به السن وأصابه الوهن فإنه لم يتوقف عن العطاء وأعطى الموسوعة أغلب وقته. لكنه ظل يعانى من الحزن والاكتئاب وهو يتابع مجريات قضية عمره. وربما كانت مصادفة لها دلالتها أنه فى أعقاب الإعلان عن صفقة القرن التى أريد بها تصفية القضية، وحين احتفلت إسرائيل بمرور خمسين عاما على انتصارها فى عام ٦٧ واحتلال القدس، فإننى لا استغرب أن يكون قلبه العليل لم يحتمل ما يجرى. ذلك أنه توقف يوم الأحد ١٨ يونيو بعد ستة أيام بالضبط من نشر صحيفة هاآرتس خبرا ادعت فيه أن نتنياهو وزعيم المعارضة فى الكنيسيت إسحاق هرتسوج زارا القاهرة سرا وعقدا اجتماعا مهما فيها، وهو ما لم تنفه مصر.
هل أبالغ إذا قلت إن الدكتور عادل غنيم عاش مقاوما ومات شهيدا؟