الاقتصاد السياسى للتنمية فى مصر: رؤية أولية

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 21 يونيو 2021 - 10:44 ص بتوقيت القاهرة

انتهى مجلسا الشعب والشيوخ من مناقشة مشروع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعام المالى ٢٠٢١ــ٢٠٢٢ الأسبوع الماضى، واختتمت المناقشة التى لم تستمر فى أى منهما سوى يومين بالموافقة عليها، مع اعتراض ممثلى الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى بدعوى أنها فى الحقيقة ليست خطة تنمية، فالتنمية من وجهة نظر نواب الحزب فى مجلس الشيوخ هى التى تستهدف نمو القطاعات السلعية فى الاقتصاد، وخصوصا الصناعة والزراعة وخدمات المعلومات، والتى لم يخصص لها كلها سوى ٢٠٪ من الاستثمارات، بينما توجه ٢٠٪ من الاستثمارات لقطاع النقل، وتوزعت الاستثمارات الباقية على قطاع التشييد.
هذا الحديث عن خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية يثير بالضرورة تساؤلات عمن يضع هذه الخطة، ولماذا يهتم بالتنمية أصلا، وما هو مفهومه للتنمية، وما هى أهدافها، وإلى أى حد يتفق ذلك كله مع دراسات المتخصصين والمتخصصات فى علوم التنمية عموما. وأطمئن القارئ الذى لا يستريح كثيرا لقراءة الاقتصاد أنى لن آخذه فى سباحة بين نظريات علم الاقتصاد، وإنما سأناقش المسألة من مدخل الاقتصاد السياسى، وهو فى أحد تعريفاته دراسة التفاعل بين الاقتصاد والسياسة، وكيف تؤثر السياسة خصوصا على أوضاع الاقتصاد.
غايات التنمية
ولكى يتضح المقصود بمدخل الاقتصاد السياسى سوف أبدأ بما قرأه طلبتى عن غايات التنمية، وكان فصلا لعالم السياسة الأمريكى الراحل صامويل هنتنجتون، وسمعته ليست طيبة فى الوطن العربى، وأعتقد أن ذلك ناجم عن سوء فهم، وهو فى ظنى من ألمع علماء السياسة الأمريكيين، وليس أدل على ذلك من أن مقولاته التى أثارت غضب الكثيرين هى واقع نعيشه الآن. هاجمه كثيرون لاعتقاده بأن نهاية الحرب الباردة سوف يعقبها صراع ثقافى ليس بين الشرق والغرب، ولكن بين الغرب بثقافته العلمانية وكل من الإسلام والكونفوشيوسية، أى بين الشعوب الغربية وكل من الشعوب الإسلامية والصين، لأن ثقافات العالم الأخرى سواء فى جنوب القارة الأفريقية أو أمريكا اللاتينية أو الهند أو الثقافات السلافية فى شرق أوروبا، كلها يمكن أن تجد أرضية تفاهم مع الثقافة الغربية، ولكن مثل هذا التفاهم صعب بين الإسلام والكونفوشيوسية من ناحية وثقافة الغرب من ناحية أخرى. طبعا هناك مآخذ على هذا الطرح، وهل الصراع بين الكونفوشيوسية والثقافة الغربية هو صراع فى مجال القيم أم أنه غطاء لتنافس على الثروة والنفوذ على مستوى العالم؟ ولكن لا يمكن من ناحية أخرى تجاهل أبعاد ثقافية لمثل هذا الصراع، ونفس الأمر بالنسبة للموقف من الإسلام فى الدول الغربية، ومحاولات منع ارتداء الشابات والسيدات المسلمات غطاء الرأس فى عدد من الدول الأوروبية هى دليل على ذلك.
استنتج هنتنجتون فى مقاله الذى قرأه طلبتى خمس غايات للتنمية هى الاستقلال، والاستقرار السياسى، وتوسيع المشاركة السياسية، ودفع النمو الاقتصادى، والعدالة التوزيعية، ولكن المثير فى مقاله هو تحليله للعلاقة بين هذه الغايات. بعض الأيديولوجيات السياسية ترى أنه يمكن تحقيقها كلها. المدرسة الليبرالية ترى ذلك، ومن يعتنق الماركسية يرى أن الثورة الاشتراكية سوف تنجزها جميعا، وأنصار مدرسة التبعية يذهبون إلى أنه يكفى قطع الصلات مع السوق العالمية حتى يظهر عالم جديد يمكن فيه بلوغ كل هذه الآمال. ولكن تأمل الواقع من وجهة نظره يكشف عن صعوبة بلوغ كل هذه الغايات فى نفس الوقت، بل إن تحقيق واحدة منها قد يجعل من الصعب تحقيق الغايات الأخرى. دفع النمو الاقتصادى بالترحيب بالاستثمار الأجنبى قد يضع الاقتصاد الوطنى تحت رحمة الشركات والبنوك الأجنبية، ومن ثم يفقد الاستقلال معناه، أو أن الإسراع فى التنمية الاقتصادية والذى يركز على الأقاليم الأكثر نموا قد ينتهى بتفاقم مشكلة توزيع الثروة بين الأقاليم وبين الريف والمدينة وبين الفقراء والأثرياء. وتكشف تجربة الدول الصناعية الجديدة سواء فى شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية أن النمو الاقتصادى السريع جاء على حساب التضحية بالمشاركة السياسية سواء فى البرازيل فى سبعينيات ومنتصف ثمانينيات القرن الماضى أو كوريا الجنوبية حتى بداية التسعينيات أو الصين الشعبية فى الوقت الحاضر، ومن ثم يطرح هنتنجتون استراتيجيات للتوفيق بين هذه الغايات المتعارضة، منها إيلاء الأولوية لغاية معينة خلال مرحلة أولى، وعندما تتحقق مثل هذه الغاية كالنمو، ينطلق الوطن على طريق العدالة التوزيعية فى مرحلة ثانية، أو يكون التفضيل لإنجاز الاستقرار السياسى، ثم يعقب ذلك توسيع المشاركة، أو يجتهد العلماء ورجال السياسة فى ابتكار استراتيجيات للتنمية تحقق غايتين فى نفس الوقت.
يستدعى تحليل هنتنجتون لغايات التنمية نوعين من الملاحظات أولهما نظرى، فإلى أى حد يشمل تحليله كل غايات التنمية؟ ألا يمكن أن يكون للتنمية بمعناها الواسع غايات أخرى، منها مثلا بلوغ القوة وتعزيز المكانة على الصعيدين الإقليمى والدولى؟ الذى يدرس تجربة الصين الشعبية يجد أن هذه الغاية تحتل مكانة كبرى فى تقدير القادة الصينيين. نجاحهم أخيرا فى إطلاق محطة فضائية بعد تطويرهم لأسلحة نووية وهيدروجينية ووسائل حملها وتواجد أسطولهم فى المحيط الهندى والخليج العربى هى كلها دلائل على ذلك. وما كان ممكنا لهم بلوغ هذه المكانة التى تجعل الولايات المتحدة تحاول حشد الدول الأوروبية وراءها لوقف الصعود الصينى سوى عن طريق تنمية علمية وصناعية واقتصادية وعسكرية شاملة. غاية أخرى مرتبطة بذلك، وهى تتمايز عن غاية تعزيز قوة الدولة الشاملة وتحسين مكانتها الدولية وهى اللحاق بالدول المتقدمة ليس بالضرورة بالوصول إلى نفس مستوى المعيشة السائد فيها ولكن عن طريق تقليدها فى مؤسساتها الحكومية والتشريعية، واتباع أنماط المعيشة المميزة لها وتخطيط المدن والطرق السريعة كما هو الحال فيها. غاية أخرى ثالثة لا يلفت تحليل هنتنجتون النظر إليها وهى توطيد شعبية النظام الحاكم بكسب تأييد المواطنين والمواطنات له، وغاية رابعة لم تكن موضع اهتمام كبير عندما كتب هنتنجتون مقاله ذلك المنشور فى سنة ١٩٨٧، وهو الحفاظ على الاستدامة بما يقتضيه ذلك من الحفاظ على البيئة الطبيعية بجميع مكوناتها.
الملاحظة الثانية التى يستدعيها تحليل هنتنجتون هى منهجية. فمن الذى يحدد غايات التنمية؟ قد يتبادر إلى الذهن أن غايات التنمية أمر متروك للعلماء والخبراء، وخصوصا أن خطاب التنمية يبدو خطابا فنيا لا يدركه سوى المتخصصين والمتخصصات فى علوم الاقتصاد والسياسة والإدارة. والواقع أن ذلك ليس صحيحا، فعملية التنمية هى عملية تخصيص موارد لاستخدامات على مستوى الوطن ككل، ومن ثم فرجال السياسة هم الذين لهم اليد الطولى فى رسم غاياتها، والدور الكبير الذى قام به القادة السياسيون فى هذا المجال فى الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا لا يمكن إنكاره، وكانت وظيفة الخبراء والعلماء هى ترجمة غايات القادة السياسيين إلى استراتيجيات وسياسات وخطط، ومتابعتها تحت العيون اليقظة لهؤلاء القادة. ولكن أليس هناك دور للمواطنين والمواطنات؟ الإجابة على هذا السؤال تتوقف على طبيعة النظام السياسى، ومدى سماحه بمشاركتهم، وهى تتحقق من خلال الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدنى فى ظل النظم الديمقراطية، أو تكون على العكس من خلال احتجاجاتهم الواسعة التى قد تؤدى إلى تصحيح مسار التنمية، وإيلاء اهتمام أكبر لبعض الغايات التى جرى إهمالها مثل غاية العدالة التوزيعية أو المشاركة السياسية أو صيانة الاستقلال الوطنى.
ماذا عن التنمية فى مصر؟
إلى أى حد يفيدنا هذا التحليل فى فهم واقع التنمية فى مصر؟ لا تكفى المساحة المتبقية لهذا المقال للخوض تفصيلا فى هذا الموضوع، ولكن من الواضح أن الذى يحدد غايات التنمية فى مصر هم نخبتها الحاكمة وهى التى تملى على الخبراء سواء على مستوى الوزراء أو أجهزة الإدارة الحكومية ترجمة هذه الغايات إلى استراتيجيات وسياسات وخطط، كان ذلك على عهد عبدالناصر وحسنى مبارك والرئيس السيسى، ونظرا لأن النظام السياسى الذى أعقب ثورة يوليو حتى العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين هو نظام لا يدعى الديمقراطية فقد كان دور المواطنين فى تشكيل هذه الغايات محدودا للغاية، وقد تغيرت أولويات هذه الغايات بحسب الرؤية السياسية لرئيس الدولة وهو قطب هذا النظام، ومن ثم برزت غايات النمو والعدالة التوزيعية والاستقلال الوطنى فى الفترة الناصرية ثم توارت غايتا الاستقلال الوطنى والعدالة التوزيعية مع الاهتمام بالنمو على عهد مبارك ثم أصبح الاستقرار السياسى وكسب الشعبية وتعزيز القوة الشاملة للدولة مع اللحاق بالغرب هى الغايات ذات الأولوية فى عهد الرئيس السيسى. ولا تعنى هذه الملاحظة الأخيرة أن خطاب التنمية فى مصر يتجاهل الغايات الأخرى. فنصوص رؤية ٢٠٣٠ حافلة بالإشارة إلى ضرورة الحرص على الاستدامة من خلال النهوض بالاقتصاد الأخضر، وتحقيق العدالة التوزيعية وتوسيع المشاركة السياسية، ولكن خطاب المسئولين الحكوميين وتوزيع الاستثمارات وتخصيص الوقت والجهد للمتابعة يكشف كل ذلك أن الأولوية الأولى هى لتنفيذ مشروعات الرئيس التى هى بالفعل الغايات الأهم.
أما فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية بمعناها الضيق، فمن الواضح أن التوجه الرئيسى هو بالأخذ بالاستراتيجية التى يسميها علماء الاقتصاد بالتنمية المتوازنة والتى توزع الاستثمارات على عدد كبير من المشروعات فى ذات الوقت. ربما يفيد ذلك فى التخفيف من حدة البطالة، ولكن مشكلتها على عكس استراتيجية التنمية غير المتوازنة أنها لا تحدث نقلة نوعية للاقتصاد لأن كل ما يحصل عليه كل قطاع لا يكفى لتحقيق هذه النقلة، ولا يتفق ذلك مع استراتيجيات التنمية الناجحة فى الدول الصناعية الجديدة التى كانت انتقلت من قطاع إلى آخر من فترة إلى أخرى حتى أمكنها إنجاز تحول هيكلى فى اقتصادها وضعها فى مكانة أرفع فى إطار التقسيم الدولى للعمل. بل إن توزيع الاستثمارات ومعدلات النمو فى الوقت الحاضر فى مصر لا يوحى بإمكانية الخروج من قبضة الاقتصاد الريعى إلى وضع الاقتصادات الصناعية الجديدة، فالقطاعات الدافعة للنمو بحسب نص تقرير التنمية الاقتصادية والاجتماعية فى العام الثانى من الخطة ٢٠١٩ــ٢٠٢٠ والتى تراوحت معدلات النمو فيها من ٩٪ إلى ٢٠٪ هى بحسب أعلاها وعلى الترتيب المطاعم والفنادق والاتصالات والاستخراجات والتشييد والبناء، تلتها قناة السويس أما الصناعات التحويلية والزراعة فقد تراوحت معدلات نموها بين ٥٪ للأولى ٣,٣٪ للثانية.
ولعل هذه الأفكار تفتح الباب لمناقشة جادة لواقع التنمية فى مصر بغاياتها واستراتيجياتها، فهى التى تحدد نوعية المستقبل الذى تتحرك نحوه مصر، شعبا ودولة.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved