كلام غير جائز.. سياسيًا

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 20 يوليه 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

فى المحاكم الإنجليزية، يُطلب من الشاهد أن يقسم، ليس فقط بأن يقول الحقيقة، بل أيضا بأن يقول «الحقيقة كاملة». وقد سألت نفسى عما إذا كنا نحن، معشر الكُتّاب، الذين يتوقع منهم الناس أن يقولوا لهم ما يعرفون، نقول «الحقيقة كاملة»، كما يطلب القاضى من الشهود. وقد كانت الإجابة للأسف أن هذا أمر نادر جدا. فمعظم الكُتّاب، فى رأيى، نادرا ما يقولون الحقيقة كاملة، ليس لأنهم يجهلونها، بل على الرغم من معرفتهم بها.

 

قد يبدو هذا لأول وهلة اكتشافا خطيرا، ولكنه ليس كذلك، إذ إن الأمر ليس مقصورا بأى حال على الكُتّاب. نحن نمضى فى حياتنا اليومية، نحادث أصدقاءنا وزملاءنا فى العمل، بل وحتى أفراد عائلتنا، فلا نقول الحقيقة الكاملة إلا لماما. والسبب أن الحقيقة الكاملة لا يسر أحدا معرفتها فى العادة، وكثيرا ما تكون جارحة، بل وقد يهدد قولها علاقات هى فى مجملها علاقات طيبة. ولهذا فالناس فى الواقع لا تقول ولا تريد معرفة الحقيقة كاملة، حتى لو ظنوا أو زعموا غير ذلك. ولهذا فنحن نكتم الحقيقة الكاملة ليس فقط عن معارفنا وأقاربنا فقط، بل ونكتمها أيضا عن أنفسنا، إذ لا يستطيع أى منا أن يعيش فى سلام مع نفسه إلا بقدر كبير أو صغير من خداع النفس. لا أريد الخوض فى هذا الآن، بل أريد فقط أن أركز على امتناع الكُتّاب عن قول الحقيقة كاملة لقرائهم.

 

●●●

 

لدى الإنجليز تعبير حديث نسبيا (ربما لا يزيد عمره على خمسين عاما) يصف نوعا من الكلام بأنه «غير جائز سياسيا» (Politically Incorrect)، ويقصد به الكلام الذى قد يكون صحيحا تماما، ولكنه يتعارض مع الرأى الشائع وقت صدوره. وينطوى هذا التعبير أيضا على الاعتراف بأن الناس تغير آراءها مع تغير الوقت والظروف، فالرأى السائد الآن لم يكن كذلك دائما، وقد لا يستمر سائدا إلى الأبد، وأن من الخطر دائما أن تقول كلاما يتعارض مع الرأى السائد، إذ قد تفقد بسببه تقدير الناس أو احترامهم. وهذا هو المقصود بوصفه «غير جائز سياسيا». ليس المقصود إذن أنه يتعارض مع ما يقوله أصحاب السلطة السياسية، بل أنه يتعارض مع الرأى الشائع بين الناس.

 

من الأمثلة الواضحة على ذلك ما يعتبر مقبولا من كلام أو كتابات عن المرأة ودورها فى المجتمع. فالذى كان مقبولا فى الغرب قبل انتشار ما يسمى بالحركة النسوية (Feminism) لم يعد مقبولا بعدها. بل لقد حدث تغيير للنظرة فى الغرب إلى الحديث عن الشذوذ الجنسى، يشبه ما طرأ من تغيير فى النظرة إلى الحديث عن مركز المرأة، وفى نفس الوقت تقريبا. وقد عبر كاتب ظريف عن هذا التغيير بقوله إن ارتكاب عمل من أعمال الشذوذ الجنسى فى الغرب، فى أوائل القرن العشرين، كان عملا يعاقب عليه القانون، ثم صار فى منتصف القرن عملا مقبولا أو على الأقل يضرب الصفح عنه، ولكن هناك خوفا من أن يصبح مع مرور الوقت إجباريا!

 

كانت هناك تغييرات مماثلة فى القرون السابقة فيما يعتبره الرأى الشائع مقبولا أو غير مقبول. فقد كان الاعتقاد السائد مثلا، فى أوروبا حتى القرن الثامن عشر، أن المجرم «مجرم بطبعه»، وأن ما يولد به المرء من صفات وميول لا يمكن تغييره، لا بالتعليم أو التربية ولا بتغيير البيئة الاجتماعية، وكانت القوانين، بما فيها القانون الجنائى، تعبر عن هذا الرأى السائد، فكانت عقوبة الإعدام تطبق أحيانا على سارق مبلغ تافه من المال، استنادا إلى أن «المجرم مجرم بطبعه»، ولا ينفع معه إلا القتل أو النفى. ثم، عندما اقترب القرن التاسع عشر من نهايته، كان الرأى الذى أصبح سائدا هو العكس تماما، فأصبح يقابل بنفور شديد أى كلام ينكر ما يمكن للمجتمع تحقيقه عن طريق تهيئة البيئة الصالحة والتعليم السليم، وكأن الإنسان من الممكن تشكيله وتطويره على أى نحو نشاء، وأصبح القول بغير ذلك كلاما «غير جائز سياسيا».

 

●●●

 

لابد أن نتوقع إذن اختلافا كبيرا بين الكُتّاب فى مدى استعدادهم لقول الحقيقة كاملة، بما فى ذلك الكلام «غير الجائز سياسيا»، وإذا بنا نكتشف أن المستعدين لذلك أندر بكثير مما نظن. من الأمثلة التى تتبادر إلى ذهنى لهذا النوع الحر الطليق من الكُتّاب، بعض الكُتّاب، البريطانيين الأثيرين لدى، مثل جورج أورويل وبرنارد شو وبرتراند رسل، وبعض الكُتّاب والفنانين المصريين مثل صلاح جاهين وأحمد بهاءالدين وأحمد فؤاد نجم وصافيناز كاظم (وقد لاحظت أنهم انتجوا بدورهم جيلا جديدا رائعا له نفس الصفات). لقد قرأت لصافيناز كاظم مرة مقالا له عنوان جميل هو «الكتابة بنصف قلم»، وتقصد به النوع الآخر من الكُتّاب الذين يكبلون أنفسهم بقيود لا تسمح لهم بقول الحقيقة كاملة. إن من الملاحظ أيضا أن الكُتّاب الذين يتجرأون ويقولون الكلام «غير الجائز سياسيا» يكونون فى العادة خفيفى الظل (وكأن خفة الظل تتطلب أن يقول الشخص الحقيقة كاملة أو يكاد) وقد كان برنارد شو، الذى توافرت فيه الصفتان بدرجة عالية جدا، تحول الحقيقة الكاملة وخفة الظل، كثيرا ما يثير الضحك بأقواله الساخرة، وكثيرا ما كان الناس يرفضون تصديق أنه كان فعلا يعنى ما يقول، بل يعتبرون أقواله من قبيل المزاح أو الإفراط فى السخرية، ومن ثم يعبّر الناس مرة أخرى عن عدم استعدادهم لسماع الحقيقة كاملة.

 

كيف تفسّر هذه الظاهرة؟ منذ أكثر قليلا من قرنين قال الفيلسوف البريطانى الشهير دافيدهيوم، إن العاطفة هى التى توجّه العقل وليس العكس. وقد شبه البعض العلاقة بين العاطفة والعقل بفيل ضخم يجلس فوقه رجل يظن أنه يوجّه الفيل فى الاتجاه الذى يريده، بينما الفيل يسير على هواه، والرجل الجالس فوقه لا يفعل أكثر من محاولة تقديم الأسباب والمبررات للسير فى هذا الاتجاه دون غيره. أظن أن هذا التشخيص للعلاقة بين العاطفة والعقل تشخيص صحيح، على الرغم من أننا نمضى فى حياتنا متصورين أن العكس هو الصحيح، لمجرد أننا نحب أن نتصور ذلك. وهذا هو فيما يبدو أحد الأسباب المهمة التى تمنعنا من قول الحقيقة كاملة، وتدفعنا إلى إنكارها إذا قالها أحد.

 

●●●

 

ما الذى يجعلنا نظن أن قيام ثورة 25 يناير 2011 يمكن أن يغيّر هذه العلاقة؟ لقد استمر بالطبع تغليب العاطفة على العقل بعد 25 يناير، واستمر بالطبع ميلنا إلى إنكار بعض الحقائق، أو على الأقل نفورنا من الاعتراف بها، رام أن بعضها قد يكون واضحا كالشمس، لمجرد أن أهواءنا وآمالنا وطموحاتنا تتعارض تعارضا شديدا مع هذه الحقائق ومع ما لابد أن يترتب عليها.

 

خذ مثلا موقفنا من الديمقراطية. إن للديمقراطية عيوبا معروفة ونقائص جمّة، تزيد كلما ساءت أحوال الناس الاقتصادية والتعليمية، وكلما زاد تأثير وسائل الإعلام، وزادت سطوة بعض الشخصيات الديماجوجية. فإذا جاءت الديمقراطية بعد فترة طويلة من الاستبداد وتقييد الحريات، كان من الصعب على الناس أن يعترفوا بأن نتيجة الديمقراطية لم تكن مرضية تماما، أو لم تكن مرضية على الإطلاق.

 

ليس «من الجائز سياسيا» إذن الكلام عن عيوب مجلس الشعب الجديد المنتخب. فإذا قام أحد بانتقاده هبّ فيه على الفور من يقول له «ألم تكن دائما معارضا للاستبداد ورافضا للدكتاتورية؟ فلماذا إذن ترفض الآن ما اختاره الناس بمطلق الحرية؟».

 

أو فلنأخذ موضوع التبعية والخضوع لتأثير إرادة خارجية. لماذا لا يفتح أحد هذا الموضوع الآن؟ هل تتصور حقا أن الولايات المتحدة وإسرائيل قد كفّا فجأة، بمجرد قيام ثورة 25 يناير، عن التدخل فى شئوننا، وكأن القرارات المصيرية لا تحدث الآن إلا بناء على تفاعل القوى السياسية الداخلية دون غيرها؟

 

أو فلنأخذ علاقة السلطة الحاكمة، التى تولت مقاليد الزمور مع مصر بعد الثورة، بالنظام الذى ثار الناس عليه. هل نتصور حقا أن من الممكن أن يكون موقف هذه السلطة من الحكام السابقين، واستعدادهم لمحاكمتهم وتوقيع العقاب العادل عليهم، واسترداد ما نهبوه من أموال المصريين، هو نفس موقف ثوار 25 يناير؟ كل هذه التساؤلات ليست الآن للأسف من قبل «الجائز سياسيا» قد يعبّر عنها البعض سرا، أو عن طريق التويتر أو الفيس بوك، ولكن نادرا ما يسمح أحد لنفسه بإثارتها فى مقال فى جريدة، أو أن تكون موضوعا لسؤال من مذيع فى حوارات التليفزيون. مثل هذه التساؤلات تظل سرا كتوما، ويتظاهر الناس بأنها لا تخطر ببالهم، إذ إن الراجح أن الجهر بمثل هذه التساؤلات «غير الجائز سياسيا»، لا يقدر عليه الآن إلا طفل صغير قلبه على لسانه، (مثل الطفل الصغير فى القصة المشهورة عن ملابس الإمبراطور) فلا يستطيع أن يمنع نفسه من الصياح فى الشارع، وهو وسط الجماهير الغفيرة، إذا رأى الإمبراطور سائرا وهو عريان فى موكبه الفخم، فيقول بصوت عال يسمعه الجميع «لماذا يسير الإمبراطور عريانا تماما؟».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved