غزة وفلسطين ومصر

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 20 يوليه 2014 - 6:05 ص بتوقيت القاهرة

تستعر الحرب فى غزة منذ السابع من شهر يوليو ويسقط الضحايا بالعشرات حتى فاق عددهم المائتين بعد عشرة أيام، بخلاف الجرحى الذين تخطوا الألف وخمسمائة، ناهيك عن تدمير البنية الأساسية وهدم المنازل.

المأساة إنسانية، لا مراء فى ذلك، وهى المرة الثالثة فى خلال ستة أعوام التى يتعرض فيها سكان غزة لهذه المحنة. ومع ذلك، ففى مصر قطاع لا يستهان به من مشكلى الوعى المؤثرين فى الرأى العام عبر وسائط الاتصال المتاحة لهم، يستهينون بالمأساة، ويشمتون فى «حماس» التى تحكم غزة وينعون على سياساتها وممارساتها ما يحل بالفلسطينيين من معاناة وحرمان من الحياة الطبيعية ومن التطلع إلى مستقبل أفضل ينتشلهم من حاضرهم التعيس. ويصل البعض من مشكلى الوعى إلى الدعوة إلى أن تنأى مصر بنفسها عن هذه الحرب وأن تترك الفلسطينيين فى غزة ينالون ما يستحقونه، «فحماس» هى قيادتهم، وهى المتسهينة بهم وبفكرة الأوطان عموما، والمتعدية على مصر ونظاميها السياسى والقانونى. مصر فيها من المشكلات ما يكفيها ويزيد فى الوقت الحالى، فلا يجرنّها أحد إلى نزاعات هى فى غنى عنها ولا تقدر عليها، يقول ضمنيا أو صراحة مشكلو الوعى هؤلاء.

مع ذلك، فإن أغلبية الرأى العام فى مصر تتعاطف مع الفلسطينيين فى غزة وتئن لأنينهم، وكيف لا، وهذا موقف يستند إلى تحليل عام للصراع فى المنطقة ولوضع مصر منه شبّت عليه أجيال المصريين جيلا بعد آخر. أغلبية المصريين ليست واعية بالضرورة بدقائق تحليل الصراع وبوضع مصر منه ومصالحها فيه. تعاطف أغلبية المصريين هو ردّ فعل إنسانى. أما صياغة السياسات فهى تحتاج إلى تذكرة بالتحليل وبمصالح مصر المرتبطة به.

•••

الشماتة فى «حماس» وفى الفلسطينيين الذين تحكمهم، لمجرد أنها تحكمهم، هو سقوط فى فخ تحليل «حماس» للصراع فى المنطقة، فضلا على السياسة فيها. مثل هذا الموقف هو قبول بما تدعيه «حماس» من أن أغلبية الشعب الفلسطينى يناصرها، ثم إنه موقف يدعم «حماس» لأنه يرمى فى أحضانها بالجماهير الفلسطينية الغفيرة التى لا تؤيدها بالضرورة، ولكنها مع ذلك ترفض سياسة الإخضاع والحصار الإسرائيلية المتعنتة والعدوانية تجاهها. و«حماس»، و«الإخوان المسلمون» معها، أعادوا صياغة الصراع فى المنطقة فجعلوه صراعا دينيا بين اليهود، من جهة، والمسلمين من جهة أخرى، متجاهلين الفلسطينيين وغيرهم من العرب المسيحيين الذين تضرروا مثل المسلمين تماما من الصهيونية وسياساتها. فى التحليل العام، والمقصود بذلك التحليل الذى يرجع إلى عشرات السنين والذى اشتركت فيه القوى السياسية العربية، من قومية وليبرالية واشتراكية وشيوعية، الصراع صراع على الوطن وليس على العقيدة، وكيف لا، وليس فى تاريخ العرب «مناهضة للسامية» واضطهاد و«بوجرومات» كالتى عرفتها أوروبا فى حق من يدينون باليهودية. التخلى عن المطالب الوطنية الفلسطينية هو إضافة إلى رصيد «حماس» وغيرها من الجماعات الجهادية المتطرفة ليس من مصلحة مصر ولا من مصلحة النظام السياسى المتحرر من التداخل بين الدين والسياسة الذى تحاول مصر بناءه وترسيخه.

وليس فى الموقف المناصر للمطالب الوطنية الفلسطينية قفزة إلى الحرب مع إسرائيل أو دعوة إليها. فى هذا الموقف عمل على العودة إلى بعض التوازن بين مجمل القوى السياسية والعسكرية فى المنطقة، والتوازن وحده هو الكفيل بإحراز تقدم نحو السلام. أيا من كان المتسببون فيه، وهم عديدون، فإن الاختلال الهائل فى ميزان القوى فى المنطقة هو الذى أودى بكل فرص السلام، حتى أن هذا الاختلال أضعف معسكر السلام فى إسرائيل نفسها.

هل من مصلحة مصر أن تنأى بنفسها عن صراع سياسى يجرى على حدودها وتحت بصرها، بصرف النظر عما إذا كان أطراف هذا الصراع فلسطينيين أو حتى عربا؟ افترض أن سكان غزة ليسوا عربا، هل من مصلحة مصر أن يدهسوا دهسا وأن تتمدد قوة إسرائيل حتى حدودها؟ إن مصلحة مصر، ومصلحة العلاقات السلمية بينها وبين إسرائيل، تكمن فى أن تقوم فى غزة، بل وفى فلسطين، سلطة سياسية مستقلة ذات سيادة تجمع أسباب الحياة والازدهار. هذه السلطة من شأنها أن تصبح حاجزا يمنع أى احتكاك بينها وبين إسرائيل. قوتان على حدود بعضهما البعض، أو لا يوجد بينهما إلا فراغ فى القوة، فرص الصدام بينهما كبيرة.

•••

مصر تتوسم فى نفسها زعامة للعرب. الزعامة لا يعلنها من يرى أنه يجمع أسبابها. الزعامة تكتسب والآخرون هم من ينادون أو يعترفون ضمنا أو صراحة بزعامة هذا الشخص أو ذاك، أو هذا البلد أو ذاك. للزعامة تكلفة، وهى استثمار يؤتى ثماره فيما بعد. مثلما هى حال الأشخاص، فإن حماية البلدان والدفاع عن مصالح الشعوب وحقوقها هى من أشكال هذه التكلفة والاستثمار اللذين يعودان ميزات تؤديها البلدان والشعوب المحمية. هذه الحماية وهذا الدفاع يكسبان من يتحمل تكلفتهما كذلك وضعا استراتيجيا فى النظام الدولى يعود عليه بالنفع المعنوى والمادى. على سبيل المثال، ألم تكن المعونة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية لمصر فى الأربعين عاما الأخيرة، وأيا كان الرأى فى جدواها وآثارها، نتيجة لوضع مصر فى العالم العربى، ولموقفها من قضاياه، خاصة الفلسطينية فيها، ولتأثيرها على بلدانه واختياراتها؟ هل كانت مصر تكتسب لعشرات السنين وضعها فى إفريقيا ما لم تكن ساندت حركات التحرر الوطنى فيها؟ بدون هذه المساندة، وهى تكلفة، هل كانت دول القارة الإفريقية تقف موقفا حاسما إلى جانب مصر فى الأمم المتحدة فى سنة 1973 وفيما بعدها من سنوات؟ وإذا كان الحديث عن إفريقيا، أفلا يمكن أن يؤدى دورا متميزا فى المحيط العربى إلى ترجيح كفة مصر عندما يحين وقت الاختيار للعضوية الدائمة فى مجلس الأمن من بين دول إفريقية متكافئة؟

لا يمكن لبلد من تسعين مليون نسمة، منفتح على منطقته والعالم من كل الاتجاهات على مرّ تاريخه أن ينكفئ على نفسه حتى وهو فى أحلك أوقاته. هذا هو وقت الابتكار والاستثمار السياسى والمعنوى والفكرى. سيحين وقت القطاف، والقطاف هو الذى سيكشف الغمّة ويسهم فى بناء مكانة جديدة لمصر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved