دهاليز الكلام

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الإثنين 20 يوليه 2015 - 6:25 ص بتوقيت القاهرة

حدثتنى طويلا عن الغيم الساكن فوق سفح الجبال، ثم انعطفت بين دهاليز الكلام تداعبنى بالأسئلة المحببة، رغم أنها مبطنة بكثير من السخرية وربما الألم. قالت ماذا ترين فى صنعاء؟ ولم تنتظر الإجابة بل أجابت على أسئلتها بشكل سريع وكأنها تؤكد ما يقوله الكثيرون أو ما سمعته من بعضهم. رددت والابتسامة تنير وجهها المشرق أصلا «ترين الفقر والشوارع غير المعبدة والنساء والاطفال عند تقاطع الطرق يمدون يدهم للمارة؟ تلك كانت طريقتها بل أسلوبها الدائم فى الرشق بالأسئلة المستفزة للقادم وكان الوقت مساء وصنعاء مسترخية بعد جلسة من الشعر والثقافة والفن».

كانت الإجابات من وحى الجو العام، فقلت أرى سقف صنعاء المرصع بالنجوم ليلا والسباحة وسط موج من الغيم فوق سفوح جبالها الخضراء نهارا. ونساء لا يعرفن سوى صناعة الشهد المعتق كما هى وعسلها الدوعنى. أرى شعبا يحمل كثيرا من السلاح ممثل فى الخناجر، رغم أن بقلبه مساحات من الحب والفرح وعداوة شديدة للقتل.

كل تلك الصور المتراصة فى براحات من الذاكرة تعود لتمحى بعض ما نشاهده اليوم من كثير من الدم والموت فى مدن اليمن السعيد! والذاكرة ظمىء بحثا عن تسكين كل تلك المشاهد حتى لا تصبح مساحات الموت بالمدن العربية هى الأكثر والأشد حضورا بل بعض مما كانت عليه قبل اختراق أحدث الآلات القتل لتنسف سهول الأرض العطشى.

***

طال النبش فى زوايا الذاكرة. فهنا زاوية لجلسة تخزين مع نساء بجمال اليمن بعد وجبة غذاء عند الشيبانى. يا ترى هل طالته قنبلة ذكية؟ أو شظية من الأسلحة شديدة الدقة؟ ما الذى حدث لذاك الذى كان يطعم القادمين أطيب أكلة سمك وأنت بعيدا عن شواطئ اليمن المتعبة.

وهناك فى زاوية أخرى ذكرى لليلة اختطفت فيها من قبل تلك الصديقة المتمردة دوما، والتى رحلت سريعا كما ربيع هذه الأوطان الذى لم يطول بل تلاشى. عندما جاءت على موعد للقاء فى فندق تاج سبأ، فما كان إلا أن أشارت بيدها لأصعد فى السيارة وانطلقت تسابق نسائم المساء الصنعاوية. لم تكترث لأسئلتى فقط كررت «سلمى نفسك لى اليوم» وهى تضحك بل تقهقه ثم تعود «أنت فى صنعاء عليك أن تتعرفى عليها كما لم يعرفها أحد». صنعاء بألوان الطيف. كانت صنعاء القديمة هادئة مسترخية فى حضن المساء، والليل أوشك أن يتسلل إلى المدينة التى لا تنيرها إلا بضع مصابيح بسيطة. أوقفت عربتها ونزلنا فى مسيرة عبر أزقة وفى أحضان أسوار البيوت الدافئة بأهلها. دقت الباب الخشبى القديم ومن هناك عرفت للمرة الأولى الهندسة المعمارية للبيت الصنعاوى القديم وتفاصيله التى تختلف حتما عن أى بيت آخر. فى الطابق الأول مكان للحيوانات ثم تتوالى الطوابق للمطبخ والمنام، وفى الطابق الأخير حيث يتصور المرء للحظة أن بينه وبين السماء المزركشة بنجومها خطوة أو قبضة يد.. جلس خليط من الاصدقاء يتناولون كل قضايا السياسة والاجتماع والهندسة، وكثيرا من النكات وبعض من الموسيقى التى تتسلل فتصبح رجفة للقلب.

***

تتكرر مثل هذه الجلسات المخزنة بكثير من الشعر والثقافة، فكيف لليمنيين أن يلتقوا دون أن يكون الشعر حاضر بقوة. ترى ماذا يستطيع الشعر أن يقول الآن وقد تساقطت نجوم سماء اليمن الساطعة بين وقع القنابل والصواريخ ووجوه الأطفال التى استبدلت الابتسامات العريضة بكثير من الدمع والوجع. كم هو مؤلم أن تقول لأصدقائك فى اليمن هل تغفروا لى اليوم والوجع تحول إلى شكل من الورم الجالس بثقله فوق القلب الموجع بآلامكم، هل تغفروا لنا؟ كلنا جيرانكم وأهلكم وأحبتكم لأننا لم نرفع الصوت ولم نقف بصدورنا حتى العارية مثل صدروكم وأقدامنا الحافية ووجوهنا المجهدة أمام ذاك القادم الذى لوث السماء والهواء والجبال والزرع وحتى السمك فى بحر عدن.. هل تغفروا؟

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved