»الليبراليون الجدد« في الوطن العربي

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: السبت 20 يوليه 2019 - 12:05 م بتوقيت القاهرة

 

كيف نفهم واقعنا العربي الراهن، وكيف ننظر إلى الأمام؟ هذا هو سؤال الساعة حقا.

وقد حاولنا أن نقدم بعض الإلماعات حول ذلك على صفحات "الشروق" خلال الفترة الأخيرة؛ ووجدنا من خلال إنعام النظر في الأحوال العربية الراهنة، ومنها الحالة المصرية، أن بلدان العالم العربي والإسلامي، من المنظور التاريخي، قد بقيت تسبح في بحر هائج مختلط الأمواج، من القديم والجديد طوال مئات السنين.   وإن اقتصرنا على نصف القرن الأخير، أو أقل قليلا، فإننا نجد أن هياكلنا الاجتماعية، ومن ثم السياسية، امتلكت السيادة فيها خلائط متنوعة من شرائح مختلفة. ومنها الشرائح ذات النفوذ في ممارسة السيطرة الثقافية و"القهر التراثى" إن صح التعبير، فيما يسمّى بالإسلام السياسي أو الحركي من دون أن يتحقق، بالطبع، المقابل المكافئ للإصلاح الديني الذي تم في الغرب في مطلع العصر الحديث - مع التسليم بنقائصه الجوهرية. كذا نشير إلى الشرائح ذات النفوذ في مجال ممارسة العنف المجسد والعنف "المشروع" باسم الدولة، امتدادا لميراث "أسلوب الإنتاج الآسيوي" في الشرق، مقابلا للإقطاعية في أوربا الغربية بالذات. وهنا برزت فئة العسكريين، ذات النفوذ المتوارث الطويل عبر أكثر من خمسمائة عام، تحت وطأة التحديات الخارجية، وثقل الحماية المفروضة من قبل الوجود التركي مقابل التسلط الغربي المتجه نحو "تحويل المستعمرات" كولونياليّا" أي وفق صيغة "تقسيم العمل الإنتاجي" الاستعمارية: حيث تتخصص الدول المسيطرة في الصناعة الأعلى تطورا، بينما تتخصص البلاد المتخلفة والنامية في المواد الخام والصناعات الأقل تطورا.

كما تبرز ضمن معادلة السلطة، شريحة "أهل الحكم" الذين هم في الحقيقة يعتبرون ممثلين أو وكلاء فعليين عن النتوء الطبقي المشكل من ملاك الأراضي الكبار، وكبار التجار والمستوردين وشركات السمسرة في الصفقات المالية والعقارية، وأصحاب رؤوس الأموال المستفيدين من عقود الإنشاءات والمشتروات للحكومة والقطاع العام والمقاولات "من الباطن"، وقليل جدا من الصناعيين. وقد مارس السياسيون المحترفون من "أهل الحكم"، نفوذهم، عبر التسلط المشترك مع العسكريين أحيانا، وفي أحيان أخرى ارتدى بعضهم  حلّة "الليبرالية السياسية" بالمعنى العام، وتارة ثالثة، لم تُعن نخب الحكم والسلطة (أو نخبة القوة Power elites بتعبير "رايت ميلز") بالشق السياسي والثقافي من الليبرالية ولو كانت بدون محتوى اجتماعي حقيقي، وإنما كان تركيز هذه النخب على "الحرية الاقتصادية، التي تنصرف، في التحليل النهائي" إلى حرية كبار أصحاب المصالح الاقتصادية والمحتكرة للنصيب الأوفر من الثروة والدخل الوطني. وبصورة عامة، فإن نخب السلطة تولت رعاية ممارسات الفساد المعمّم، وخاصة عبر احتكار السلطة الإدارية على المستويات المركزية واللامركزية، وكانت هذه الممارسات ومصاحباتها تمثل الظاهرة الرئيسية المركبة الطافية على السطح، والثاوية في العمق، في آن معاً.

***

وقد تناولنا في مقالاتنا السابقة ظاهرة "العسكريين" ودورهم النافذ في معادلات السلطة في البلاد العربية والإسلامية؛ واليوم نناقش ظاهرة "أهل الحكم" – نخبة السلطة" - من حيث الانتماء إلى ما يسمى بتيار "الليبراليين الجدد" Neo liberals، على الصعيد العالمي خلال العقود الزمنية الأربعة الأخيرة، أو أبعد قليلا.

ولقد تعملق اتجاه "الليبراليين الجدد" الذين تلبسوا أشكالاً وأثوابا جديدة، بعضها قشيب مستحدث، وبعضها قديم: ابتداء من "المحافظين الجدد"، من أضراب رونالد ريجان ومارجريت تاتشر في أمريكا وبريطانيا خلال الثمانينات ومطلع التسعينات، مرورا بتيار "المحافظين الجدد المجانين" أواخر التسعينات ومطلع الألفية، الذين مثلّهم (جورج بوش الابن)، انتهاءً باليمين "الشعبوي" الذى حمل دونالد ترامب إلى مقعد الرئاسة الأمريكية.

في جميع هذه الحالات، ارتفعت راية "الليبرالية الجديدة" التي تمثل المقابل لما يسمى "الكينزية"، أي مذهب تدخل الدولة، القاضي برفع مستوى التشغيل للقوى الإنتاجية وخاصة قوة العمل إلى ما يقرب من حالة التوظف الكامل. وعلى الضدّ من الكينزية، جاءت موجة "الليبرالية الجديدة" لتعيد إحياء أسوأ ما في الليبرالية بشكل عام، عبر إعادة الاعتبار الكامل لمبدأ تعظيم الربحية الخاصة وتمجيد القطاع الخاص، وبالتالي "خصخصة" ما قد يكون هناك من "قطاع عام"، بالإضافة إلى استخدام سلّة السياسات المالية والنقدية لتحجيم الإنفاق العام الاجتماعي الموجه لصالح الفئات محدودة الدخل والفقيرة بالذات. وقد تم تحميل هذا الانفاق الاجتماعي بالذات (على لسان جماعة "النقديين الجدد" بزعامة ميلتون فريدمان)، وليس الانفاق العسكري والتسليحي- و"الإنفاق غير الضروري اجتماعيا" للطبقة البورجوازية وجهاز الدولة الممثل لها - المسئولية عن عجز الموازنات العامة، واللجوء "الاضطراري" للسلطات النقدية، من ثم، إلى التمويل التضخمي لسد فجوة العجز، وهو الكابح لمستويات الإنتاج، مما يولد ظاهرة "التضخم الركودي" Stagflation حسب هذا الزعم.

***

في ظل الليبرالية الجديدة بوجهها القبيح، تفاقمت في البلاد النامية المدينة أو المعسرة، التباينات الطبقية، وحدث انحراف شديد في منحنيات توزيع الثروة والدخل الوطني لصالح الفئات ذات النصيب الأعلى من الدخل والثروة، وذات القدرة الأكبر – بما لا يقبل المقارنة – على الوصول إلى فرص التكسب ومراكمة العوائد الخاصة، ولو من باطن جهاز الدولة عبر عقود المقاولات والأشغال العامة، وعقود "المناقصات والمزايدات" والمقاولات الفرعية، من باطن الجهاز المصرفي– من بنوك عامة أو خاصة – عبر القروض غير المضمونة بغطاء حقيقي، وكذا الممارسات غير الصحيحة في أسواق المال والبورصات. وتم كل ذلك في غياب قواعد الإدارة السليمة (وما يسمى بالحوكمة الرشيدة) سواء على مستوى الحكومة أو مستوى شركات الأعمال وأسواق المال، ومن ثم غياب ممارسات المحاسبة والشفافية وقواعد الإفصاح المالي.

أدى ذلك في النهاية إلى إهدار المال العام، وارتفاع سقوف الاستدانة ممثلة في الدين العام المحلى، والدين العام الأجنبي، مقابل إفقار متزايد للغالبية الاجتماعية الساحقة (80% من السكان على الأقل).

يضاف إلى ذك فوضى ما يسمى بالتحرير ("اللّبْرَلَة" بالأحرى) من خلال إطلاق قوى السوق باسم "الاقتصاد الحر" الذى لا يعد كونه وهماً من الأوهام عبر التاريخ. ونضيف أيضا الممارسة "شبه العمياء" لتحرير حركات رأس المال، من وإلى البلاد، دون ضوابط حقيقة. ترتب على ذلك نزح أو تدفق عكسيّ لرؤوس الأموال من البلاد النامية إلى الدول المتقدمة المستثمرة والمقرضة، بما في ذلك نقل الأرباح المغالى فيها المحققة للمشروعات الأجنبية إلى الخارج دون أن يعاد استثمارها، ثم نقل "أصل رأس المال" بعد تصفية المشروعات.

لا ننسى، بعد ما سبق، تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي، الذي أوكلت إليه منذ أواسط الثمانينات، مهمة "الإشراف" على سير النظام المالي الدولي، وخاصة بإزاء الدول النامية، من خلال "المشروطية" للقروض الممنوحة من أجل محاولة "تعويم" الاقتصادات الغارقة في بحر الديون. لم يتم ذلك فقط من حيث الدعوة إلى خفض سقف الإنفاق العام الاجتماعي، عبر تقليل مستوى الدعم السلعي والخدمي، وعدم ربط الأجور بالأسعار وفق جدولة معقولة، ولكن أيضا من حيث التوصية بخفض سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، لا سيما الدولار الأمريكي، بفعل "التعويم الحر" أو "التعويم النظيف"!، دون إدارة للتعويم أصلا أو دون إدارة فعالة.  نتج عن التعويم وخفض العملات الوطنية المزيد من التضخم السعري، سواء تم قياسه بمؤشر التضخم الأساسي عبر المستوى العام للأسعار أم من خلال "الرقم القياسي لأسعار المستهلك".

والملاحظ أن الليبرالية الجديدة، بأبعادها السابقة، في المجال الاقتصادي، تتم ممارستها الفجة في غيبة الليبرالية السياسية والفكرية، كما أن الممارسات الاقتصادية لليبرالية الجديدة، بقيامها على قاعدة احتكار السلطة، وما يؤدّي إليه ذلك من الفساد المعمم والإفقار المتزايد للجماهير، ونهب المال العام، وتدفق رأس المال عكسياً إلى الخارج، تؤدى إلى استفزاز قطاعات متزايدة من النخبة السياسية والثقافية، ودفعها باتجاه التركيز على الليبرالية السياسية والفكرية دون ربطها الواجب بالمحتوى الاجتماعي. والمفارقة هنا أن (الليبرالية تكون ضد الليبرالية)، بمعنى أن ليبرالية الساسة "المستقلين"، والمثقفين تقف قبالة ليبرالية رجال الدولة وقطاع الأعمال الخاص، أو "تحالف" مركب الدولة – رأس المال.

ختام

بذلك نكون، في مقالاتنا الأخيرة، قد تناولنا الشكل التخطيطي العام لنماذج الممارسة السياسية في البلدان العربية خلال العشريات الأخيرة، فيما يمكن أن يمثل "مورفولوجيا" الظاهرة السياسية، ضمن ما أطلقنا عليه "مربع السلطة" المكون من "العسكريتاريا"، و"الإسلام السياسي" و"الليبراليين الجدد" في الأبنية الحاكمة، و"الزمرة الليبرالية" بالمعنى السياسي والثقافي. وإذا أضفنا شريحة "اليسار والتيار الوطني – القومي – التقدمي" باعتبارها الشريحة الغائبة نسبيا من المعادلة في الوقت الحالي، لأمكننا إطلاق تعبير "التشكيل الخماسي" للممارسة السياسية. أما إن أضفنا "الشعب" نفسه، خارج النخب المذكورة جميعا، فإنه يمكن الحديث عن "المكعّب السداسي السياسي" كإطار تفسيري للتطور السياسي في بلداننا، والذي يبدو أنه قد دخل في مضمار "الدائرة المفرغة" حتى تتغير الظروف جذريا بإحداث قطع غير قابل للرجوع في مسار الحركة بالاتجاه إلى الأمام، ولو عبر مسار "لولبيّ" طويل.

ولئن كنا قد فصلنا نسبيا في معالجة كل من "العسكريتاريا" و"نخبة السلطة"، فإنه يتبقّى أمامنا كل من الإسلام السياسي والتيار الليبرالي العام. ونأمل أن تتاح لنا الفرصة لمعالجتهما في وقت لاحق.

أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية

الاقتباس

في ظل الليبرالية الجديدة بوجهها القبيح، تفاقمت في البلاد النامية المدينة أو المعسرة، التباينات الطبقية، وحدث انحراف شديد في منحنيات توزيع الثروة والدخل الوطني لصالح الفئات ذات النصيب الأعلى من الدخل والثروة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved