لمحة من ثورة يوليو

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 20 يوليه 2020 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

عشرات من كتب السير الذاتية تناولت ثورة يوليو بالنقد والتحليل. لم تخل رؤية واحدة من الانحياز الشديد إلى طرف ضد طرف، لم تخل ترجمة لحياة أحد أقطابها من عبارات الندم وجلد الذات وصب اللعنات على الآخرين، لم تخرج رؤية موضوعية معتبرة لهذا الحدث التاريخى الذى يمثّل فى جوهره انقلابا فى حركة التاريخ وليس انقلابا عسكريا لنفر من صغار الضباط كما يحلو للبعض أن يختزله. يقول الكاتب فاروق جويدة فى كتابه «من يكتب تاريخ ثورة يوليو؟»: «لقد بقيت ثورة يوليو حتى الآن تاريخ أشخاص ولا أدرى متى نكتب تاريخ الوطن؟».
فى هذا المقال لمحة واحدة من لمحات يوليو التى تعوْدنا هذه الأيام ذكراها الثامنة والستون. مظالم يوليو لم تكن حكرا على بعض رموز الرأسمالية الوطنية التى أممت ثرواتها وحُرمت البلاد عطاءها، ولا هى محض تكريس لتفاوت طبقى من نوع جديد قام على أنقاض نظام اجتماعى بائد، ولا هى صور متفرقة لضحايا صراع على شجرة السلطة فى مصر التى دانت قطوفها بسهولة لعدد من الشباب لم يستعدوا للحكم، تماما كما لم يستعد لها الملك الصغير الذى عاجلت المنيّة أباه ولمّا يتم وريث العرش تعليمه، أو ينهل من خبرة أبيه فى أمور السياسة وإدارة شئون البلاد. يقول اللواء محمد أنور نافع فى شهادته للتاريخ بكتاب الشاعر فاروق جويدة تحت عنوان «كنت وسيطا بين الثورة والوفد»: «باختصار شديد، كان واضحا للمقربين من القيادة العامة لحركة الجيش فى 23 يوليو سنة 1952 أن ضباط القيادة برياسة اللواء أركان حرب محمد نجيب لا ينتوون التصدّى لحكم البلاد، وقد حاولوا باتصالات سياسية فردية جس نبض بعض الأحزاب لإمكان تشكيل قاعدة شعبية يمكن أن تكون أساسا لحكومة منتخبة، بل إن الحركة رفعت شعارا جذابا ومؤثرا هو «جئنا نحمى الدستور».
وقد كان الصاغ أنور نافع ضحية الانحياز إلى الديمقراطية وعودة الحياة السياسية وإطلاق الحريات، واستبعد من الجيش فى أعقاب أحداث 1954 بعد أن عدّ من المنتمين إلى الرئيس محمّد نجيب! ولم ينصفه إلا الرئيس السادات بعدها بسنوات وأعاده برتبة لواء.
***
مظالم يوليو امتدت نيرانها إلى ثوّارها بصورة يعز نظيرها، واستمرت فى حصد الكثيرين منهم على مدار عقود. لم يسلم من تلك المظالم الرؤساء والوزراء والقضاة والضباط وأصحاب القلم... منهم من ظلمته السلطة، ومنهم من ظلمه الناس، وأكثرهم ظلموا أنفسهم بالطواف حول المادة والنفوذ. يقول المهندس حلمى السعيد من الضباط الأحرار، ووزير الكهرباء والسد العالى فى عهد الرئيس السادات، وأول رئيس للجهاز المركزى للتنظيم والإدارة فى عهد الرئيس عبدالناصر فى كتابه شهادتى للأجيال: «من الثوابت التى أكّدها حصاد مشوار العمر الإيمان بالقناعة والرضا بما قدّره الله وقسمته العادلة. لذلك لا ينبغى أن يكون المقياس المادى هو الوسيلة الوحيدة لتقييم الأشياء والحكم عليها بالنجاح أو الفشل. لقد أثبتت تجارب حياتى خطأ اللجوء إلى المقياس المادى، فهناك مقاييس لعطاء الآخرين وانحياز لعمل الخير ونصرة للمظلوم وتلبية لصاحب الحاجة، كذلك ألا يكون الكسب المادى قد تم على حساب حقوق الآخرين». ثم يتابع «من هنا تكون قوة الارتفاع وتجنّب الوقوع فى مذلة السقوط مهما كانت درجات ومستويات الإغراءات، فالمناصب تخبو وقوة الجاه تزول ولا يبقى إلا الموقف النبيل والعطاء الأصيل». تلك شهادة رجل أرهقته المعارك وخبر من أمور الدنيا الكثير، ثم اعتبر من مراكز القوة بعد أشهر قليلة من تكريمه واستوزاره! فلفحته مظالم يوليو ببعض هجيرها وإن أطلقوا عليها ثورة التصحيح.
يقول سليمان بك حافظ نائب رئيس مجلس الدولة عند قيام الثورة وأحد مهندسى عملية انتقال السلطة من الملك إلى قادة الثورة معاونا للسنهورى باشا، وكلاهما كاره لحزب الوفد!: «وكان علينا أن نحسب حساب الوفد فى الانتخابات المقبلة بحكم أنه أكبر الأحزاب القديمة وأكثرها نظاما. ومن ثم كنت أنا وجمال متفقين على ألا نكتفى فى تقليم أظافره بأن نجرده من العناصر الطيبة التى كانت منتمية إليه لتنتظمها جبهتنا، بل يجب أن نتألف تحت علمها جميع خصومه من رجال الأحزاب الأخرى والمستقلين. ونظرا لضيق الوقت رأينا أن نسلك إليهم طريق زعمائهم، ومن أجل هذا نشطت للاتصال بهؤلاء الزعماء وعملت على رفع الحجر عن بعضهم». ثم يعود فيقول فى الثلث الأخير من مذكراته «وخبت فى الشعب روح الإيمان بنفسه بعد أن كانت الثورة فى أول عهدها قد أذكتها فيه مهيئة له تولى سلطاته الطبيعية، خبت هذه الروح تحت ضربات البطش والإرهاب من حاكم عقد النية على الحكم بأمره، لا يكاد يستر نياته ما يصطنعه هو وأنصاره من مظاهر التهليل والتضليل. ومشى ذهب المعز إلى جانب سيفه على أنقاض الأخلاق وأشلاء الرجال يطآن بالأقدام المبادئ والمثل التى كانت الثورة قد رفعتها فوق الهامات.
وراجت سوق النفاق وافتنّت الصحافة فى تملّق أصحاب السلطان حتى بلغت حد التقديس وشارفت مشارف التأليه، ولم ير هؤلاء بأسا من استعمال الانتهازيين وضعاف النفوس فى سبيل دعم حكمهم وتوطيد سلطانهم. وأضحى للناس وجهان: يبدون أحدهما للحاكم تلوح عليه مظاهر التأييد والتحبيذ، والآخر فيما بينهم يقطر ببغض العبيد وكراهية الأرقّاء». (من كتاب ذكرياتى عن الثورة لسليمان حافظ الصادر عن دار الشروق).
وقد اعتقل سليمان حافظ فى نوفمبر عام 1956 ولمدة ستة أشهر بعدما كان مستشارا لرئيس الجمهورية، وعرضت عليه رئاسة الوزراء عند قيام الثورة فأبى لقلة خبرته. وهكذا كان من أول من تعرّضوا لأذى يوليو وأول النادمين على مواقفه الأولى فيها، وكذلك كان السنهورى باشا الذى تعرّض للضرب فى واقعة شهيرة.
***
لم يسلم من لهيب يوليو الرئيس محمّد نجيب الذى حملت مذكراته «كنت رئيسا لمصر» تفاصيل مريرة لأحداث عامين من قيام الثورة، جمع خلالهما الرئاسات الثلاث ثم انتهى إلى الاعتقال وتحديد الإقامة. كذلك لم يسلم عضو واحد من أعضاء مجلس قيادة الثورة من تبعات سلبية للثورة وفى مقدّمتهم الرئيس عبدالناصر نفسه الذى نسبت إليه منفردا كل الأخطاء والخطايا المقترفة منذ عزل الملك إلى يومنا هذا. والحق أن تجربته أثرى من ذلك بكثير، وقدرته على تعبئة الجماهير وصناعة أحلامهم وبلورة الكثير منها فى خطط وقرارات لم تزل تحيّر الساسة والمؤرخين.
لكنّ أكثر من ظلمتهم يوليو هم أجيال لم يعاصروها ولم يصلهم من أخبارها إلا اليسير. ارتبطت معظم الأخبار بالدسائس والمؤامرات والصراع على السلطة، بينما اهتم الكتاب المدرسى ببعض المحفوظات السطحية التى لا تشبع نهم الساعين إلى المعرفة. لم يبق من أبواب السياسة فى ضمائر العامة سوى باب الدسائس والمكائد. لم يعش من تاريخ النحّاس باشا ومكرم عبيد والنقراشى سوى أسماء الشوارع والمدارس وتهافت حزبى على السلطة! هى أجيال اختل بينهم ميزان القيم وفلسفة السمو وآداب الاختلاف بل والخصومة، والتبست عليهم مفاهيم الحرية وأصالة الرأى والثبات على المبدأ، وحل محلّها مفهوم تحصيل المنفعة والارتقاء فى سلّم السلطة بأى ثمن. إن ما رسمه بعض مؤرخى ثورة يوليو من خط فاصل بين الوطنية والخيانة، بين الدولة والعزبة، بين مملكة مصر والسودان وجمهورية مصر العربية، أضاع على مصر جانبا مهما من تراثها، وتاريخا عامرا بالانتصارات، وإمكانات وفرص عظيمة امتلكها الشعب المصرى وكان ليغتنمها لو أنه انتقى من عهد ما قبل الثورة من الأسس ما يصلح للبناء، ومن روح الثورة النابضة بالرغبة فى التغيير والتطوير والعدل والمساواة ما يقيم العوج.
آفتنا نحن العرب، والتى رصد جانبا منها عميد الأدب العربى طه حسين فى كتابه ــ الأزمة ــ «فى الشعر الجاهلى» أننا فى فورة الانحياز إلى كل ما هو جديد نجحد ونضيع تاريخا طويلا فيه من القيم والحسنات ما فيه. فإن أردنا أن يرى الشعب ثورة يوليو ثوبا ناصع البياض كان لزاما أن تتشح الملكية كلها بالسواد! تبسيط يصلح لخطاب شعبوى فى أمة تفشّت بها الأمية.
لن نقرأ تاريخ ثورة يوليو إلا من وثائقها الأصلية، تماما كما يفعل الأمريكيون بالإفصاح عن وثائقهم الخاصة بعد مرور عشرين عاما، وكما يفعل البريطانيون فى وثائقهم السرية بعد مرور ثلاثين عاما.. تقول الدكتورة لطيفة سالم فى معرض شهادتها عن الثورة فى كتاب الشاعر فاروق جويدة المشار إليه سابقا: «وعليه فلن يؤرّخ للثورة بطريقة علمية رصينة مع استمرار باب الوثائق مغلقا أمامنا».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved