صلاح عيسى نجم معرض الكتاب
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 20 يوليه 2021 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
تقول المعلومات إن الكاتب صلاح عيسى مات فى 25 ديسمبر 2017، لكن الوقائع على الأرض، تشير إلى أنه لا يزال حيا، بل إنه الكاتب الأكثر مبيعا خلال الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولى للكتاب.
والشاهد أيضا أن دور نشر كثيرة تسابقت على إعادة نشر مؤلفاته أو اكتشاف مؤلفات أخرى أنجزها ولم ينشرها.
وهذه ظاهرة تستحق التفكير، ففى العادة لا يتحمس القراء إلا لكتاب طازج بنار الفرن، لكن صلاح عيسى عاش ومات وهو فى فضاء «الاستثناء».
وظلت أغلبه كتبه تستحق أن توصف بأنها «جديدة» ينبغى أن تقرأ باستمرار، لتنجو مع كل قراءة من الأعباء التى حملتها فى مختلف المراحل.
صحيح أنه من الصعب أن تحرر كل نص من سياق إنتاجه، إلا أن النصوص الفارقة هى التى تحلق خارج زمنها، وتعبره إلى أزمنة أخرى بأجنحة من نور.
فى كل مراحله لم يفقد الراحل جمهوره القديم وتساجل معه تحت بند «المشاغبات» لكنه كان يكتسب قراء جددا عند كل مقال، وهذه ميزة للكاتب الحقيقى الذى يضمن كل يوم «ولادة جديدة».
كان الشاعر حلمى سالم يقول «الاعتراف يأتى من الأجيال الأصغر» والاعتراف بموهبة صلاح عيسى لم يكن محل خلاف بين أجيال أو تيارات سياسية لكن ما يدهش حقا أن الأجيال الجديدة التى تقرأه الآن تحصره فى دور «المؤرخ» وهذه ميزة أخرى لأن السياسى «عابر» بطبعيته.
انتمى صلاح عيسى لجيل من المؤرخين، يجرى وصفهم فى الكتابات الأكاديمية بـ«المؤرخين الهواة» وضم إلى جواره مؤرخ آخر قدير هو المستشار طارق البشرى، وقد تحررا معا من أساليب الكتابة الأكاديمية الجامدة إلا أنهما لم يتحررا من شروطها فى التحرى والتدقيق.
وقد تزامن إنتاجهما مع إنتاج فئة من الأكاديميين انشغلت بإنتاج كتابة تاريخية جديدة دعمها الدكتور محمد أنيس كانت تركز على التاريخ الاجتماعى بصورة رئيسية وساعدت مجلتى «الطليعة» و«الكاتب» خلال النصف الثانى من الستينيات على تقديم هذا الإنتاج وبلورته فى سياق ملائم للتغييرات التى كانت تشهدها مصر آنذاك.
وكانت تجربة الحركة الطلابية عند نهاية الستينيات وبداية السبعينيات هى الميلاد الحقيقى لـ«صلاح عيسى» كظاهرة كبيرة فى الصحافة السياسية تركت أثرها على الأجيال التى جاءت بعد ذلك.
والأكيد أنها رسمت صورته فى وعى هذا الجيل الذى ارتبط به واعتبره (المعبرالصحفى) عن مشروعه فى التمرد والاختلاف، وكان هو الأيقونة التى خلقها جيل 68 وما تلاه لمواجهة أيقونة أخرى هى محمد حسنين هيكل، والتى كانت تمثل خطاب السلطة النقيض.
ومثلما كانت ظاهرة الثنائى أحمد فؤاد نجم والشيخ أمام «تعبر عن طوفان الاحتجاج الغاضب»، كانت مقالات صلاح عيسى هى نصها الساطع الصريح الذى واجهته به «سنوات الضباب».
وبعيدا عن الكتابة السياسية تميز إنتاج صلاح عيسى فى الكتابة التاريخية بالميل ناحية الكتابة السردية التى لا تقوم على رص المعلومات أو تحليلها وانطلق من وعى فارق بقوانين المادية التاريخية واستند على حس روائى مدهش وقدرة استثنائية فى التعامل مع أزمنة ومواد مختلفة قام بتقديمها فى «سبيكة» مدهشة أقرب إلى فن «الكولاج»، وداخل هذا الفن أعاد تعريف «الوثيقة» وفتح أعين المؤرخين على مصادر تاريخية مهملة ونصوص غير تقليدية أجاد استعمالها ببراعة.
وقبل أن نعرف أو نقرأ أى شيء عن مفهوم «التاريخ من أسفل» الذى قدمه الهندى «رانا جيت غوها» فى ثمانينيات القرن الماضى وفرض نفسه على حقل الكتابة التاريخية فى العالم بعد ذلك كان صلاح عيسى قد ترجم المفهوم فى انتاج، فعلى على الأرض ظهرت ملامحه فى كتابه الرائد «الثورة العرابية»، وهو الكتاب الذى أعادت هيئة قصور الثقافة طباعته مؤخرا وتبلور كأفضل ما يكون فى كتاباته التى توالت بعدها وأبرزها «رجال ريا وسكينة» و«البرنسيسة والأفندى».. وأخيرا فى كتابه «أفيون وبنادق» الذى نشرته دار المحروسة هذا الشهر لأول مرة، وكان قد نشر صحفيا فى صيغته الأولى وهو كتاب نادر فى طموحه لتقديم رؤية شمولية لظاهرة «أولاد الليل»، انطلاقا من تجربة خط الصعيد ومما أسماه «التاريخ الشعبى» الذى يكاد اليوم أن يمثل سمة واضحة للكتابة التى تريد أن تبنى طموحا جديدا فى العلاقة مع القارئ، لكى يصبح التاريخ «شعبيا».
نجح رهان صلاح عيسى وتأكد حضوره للدرجة التى تجعل مؤرخا أكاديميا محترفا مثل الدكتور محمد عفيفى أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة يطمح فى أن يماثل مشروعه فى الكتابة ما كان صلاح عيسى يجاهد لتحقيقه، فطوبى لهذا الرجل وما ترك من عطاء.