مئوية الثورة السورية الكبرى.. والدروس المستفادة
هاني سليمان
آخر تحديث:
الأحد 20 يوليه 2025 - 7:31 م
بتوقيت القاهرة
تطل علينا مئوية الثورة السورية الكبرى التى حدثت فى يوليو 1925 ضد الاستعمار الغربى (الفرنسى والبريطانى)، والتى قادها الزعيم الكبير سلطان باشا الأطرش انطلاقا من السويداء فى جبل العرب فى سوريا، وشارك فيها قادة وطنيون من مختلف أنحاء سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ردا على مشروع تقسيم المنطقة (سايكس- بيكو) 1916، وعلى وعد بلفور 1917، وسوريا اليوم تعيش محنة الاحتلال الخارجى والاحتراب الداخلى، لا لشىء إلا لأن سوريا بموقعها الجيوستراتيجى كانت هدفا دائما لقوى السيطرة الاستعمارية القديمة والحديثة.
تشترك مصر مع سوريا، من حيث موقعهما أيضا، فى كونها هدفا تاريخيا للاستعمار الغربى منذ حملة بونابرت عليها سنة 1798 كأول حملة غزو غربية على أمتنا العربية، فكانت الثورات المصرية المتعاقبة ضد الاستعمار الغربى بجناحيه الفرنسى والبريطانى بدءا من ثورة عرابى 1879 -1882 مرورا بثورة سعد زغلول 1919 وصولا إلى ثورة جمال عبدالناصر سنة 1952.
ولقد جمعت المصيبة الاستعمارية كلا من مصر وسوريا فوضعتهما فى مناخ واحد ورؤية مشتركة وتطلع متكامل بينهما إلى مشروع وحدوى بدأه إبراهيم باشا فى منتصف القرن التاسع عشر، واستمر به عبدالناصر سنة 1958.
• • •
إنها محاولات جادة بين أبناء الأمة وأقطارها للوحدة والتحصن بوجه محاولات الهيمنة والتسلط، باءت للأسف بالفشل الذريع، بسبب التحالف الوثيق بين واقعنا فى الداخل المتردى، وبين استغلاله الخارجى لأهداف استعمارية.
وما أثبتته الأيام والوقائع أن التحالف الغربى بأهدافه المعلنة قد نجح إلى حد كبير فى مواضيع عديدة أهمها:
1. تجزئة المنطقة.
2. تكريس الكيان الصهيونى.
3. ديمومة الآثار المدمرة على أمتنا حتى أيامنا هذه.
وقد جاءت الحرب الصهيونية على سوريا سنة 1967، ليحتل العدو الإسرائيلى الجولان العزيز. علّه - باحتلاله لأرضها- ما يدفعها لرفع الراية البيضاء.
وبرغم كل ذلك، ما هانت قلب العروبة ولا استكانت، والتاريخ شاهد، ومن قلب هذه التحديات امتشقت سوريا سلاح الإرادة، وبيدها الجريحة زرعت العلم السورى فى هضبة الجولان المحتل سنة 1973، وتقول الوقائع - وهى صادقة ناطقة - إن هذه الحرب كادت تلغى مفاعيل الحروب السابقة عليها، لما أحدثته من صدمات وأزمات لقادة الكيان السياسيين والعسكريين.
إن مفخرة أكتوبر 1973 فى الجولان مترافقة مع الدور العظيم لجيش مصر العظيم فى عبور قناة السويس، قد فتحت عيون الغرب مجددا على موقع سوريا، فأدرك أنها لا يمكن أن تؤخذ بالترغيب بتسوية تنال فيها جوائز ترضية من هنا ومن هناك، فى حين أن الغرب كانت عينه على الجائزة الكبرى المتمثلة بدفعها إلى الاعتراف بالكيان الصهيونى.
وإذا كان الاحتلال لم ينفع، وإذا كانت الحروب لإضعافها لم تحقق أهدافها، وإذا كانت الإغراءات وجوائز الترضية لم تُسلْ لعابها ولم تصرفها عما شبت عليه، فلا بد من طريقة أخرى تتمثل بإنهاكها من الداخل لتجعل من شبابها كهولة عاجزة يأكلها الشيب يوما بعد يوم.
وكانت الأحداث الأخيرة سنة 2011 تحالفا بين أخطاء وخطايا الداخل وتآمر الخارج. وبالمحصلة هذه الأيام:
- النفط ممنوع على السورى، وهو للأمريكى مباح.
- القمح والماء والكهرباء، بديلها جوع وجفاف وعتمة، والغاز والنفط والمعادن موارد للتقاسم بين الشركات الكبرى.
هل نجحت المؤامرة بتمزيق سوريا كما نجحت فى العراق واليمن والسودان وليبيا؟ نعم للأسف. هل فشلت أنظمة بلداننا الشمولية فى إغلاق الطاقة التى تأتى منها رياح التغيير الديمقراطى كما رياح عواصف المؤامرات؟ نعم فشلت.
• • •
بالعودة إلى الثورة السورية الكبرى طلبا للحرية وللوحدة والتحرر، لم تكن هذه الثورة بنت ساعتها، ولم تكن ردة فعل على مكر غربى فحسب، بقدر ما كانت استشرافا لمخاطر ما تحمله المؤامرة على أمتنا من جهة، وتطلعا لبناء وحدة الأمة وتحررها من جهة أخرى.
كان هدف فرنسا فرْنَسَة سوريا ولبنان بأعمال القتل، وإلغاء المعالم، والاعدامات الميدانية، واجتياح القرى والبلدات، واليوم نشهد اعتداء على رموز الثورة الكبرى سنة 1920 وعمليات تصفية جسدية بشعة تعمّق الجروح بين أبناء الأمة.
ألا يحصل فى السويداء وجبل العرب هذه الأيام من توسيع الاحتلال الصهيونى وتغذية للفتن الداخلية واعتداء على رموز الثورة ما يشبّه الحاضر بتفاصيل الماضى؟.
لقد حملت الثورة السورية كل صفات الثورة من مقدمات وشروط وعناصر ذاتية وموضوعية تمثلت باتساعها وشموليتها، فامتدّت من جبل العرب فى السويداء بقيادة سلطان باشا الأطرش إلى دمشق بقيادة عبد الرحمن الشهبندر، إلى الساحل السورى بقيادة صالح العلى، إلى الشمال السورى بقيادة إبراهيم هنانو، إلى البقاع بقيادة توفيق هولو حيدر.
هذه الثورة لم تكن قتالا شجاعا ضد القوات الفرنسية فحسب، بل كانت فعلا سياسيا قوميا ونهضويا وثقافيا بدأت تظهر معالمه مع النخب العربية فى كل من اسطنبول، ودمشق، وبيروت، وباريس، لتظهر هذه المعالم مع طلائع الحملة الفرنسية على سوريا ولبنان. ابتدأت هذه المعالم النهضوية التحررية مع رشيد رضا وشكيب أرسلان ومحمد عبده وجمال الدين الأفغانى لتستمر مع سلطان باشا الأطرش ورفاقه ضد الاستعمار الفرنسى.
لقد استعملت هذه الثورة كل أسلحتها، فامتشقت إضافة إلى السلاح، سلاح الفكر، والتعبئة، والأدب، والشعر، والدبلوماسية عبر المجلات والدوريات والنشرات وأدوات التوجيه.
لقد سميت هذه الثورة بالكبرى لأنها بالفعل كانت كبرى، برجالاتها وشعاراتها وأهدافها واتساعها الجغرافى والسياسى وتأثيرها فى المحيط وتصديها للمشروع الغربى الصهيونى بجهد دءوب منذ مشروع حاييم وايزمان الهادف إلى زرع الكيان الصهيونى فى فلسطين وبادية الشام.
قبل وفاته سنة 1982 كتب سلطان باشا الأطرش وصيته قائلا: «عزمت فى أيامى الأخيرة وأنا أنتظر الموت الحق أن أخاطبكم مودعا وموصيا».
لقد أولتنى هذه الأمة قيادة الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسى الغادر، فقدمت بأمانة القيادة وطلبت الشهادة وأديت الأمانة.
وصيتى لكم أن أمامكم طريقا طويلة ومشقات شديدة تحتاج إلى جهاد وجهاد. جهاد مع النفس وجهاد مع العدو. اعلموا أن وحدة العرب هى حلم الأجيال وطريق الخلاص وأن ما أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ، وإن كأس الحنظل بالعز أشهى من دماء الحياة مع الذل. أنى لم أر أقوى تأثيرا فى النفوس من قراءة التاريخ لتنبيه الشعور وإيقاظ الهمم. الحمد لله لقد أعطانى عمرا قضيته جهادا وأرضيته زهدا، أما ما خلفته من رزق ومال فهو جهد فلاح متواضع تحكمه الشريعة السمحاء».
• • •
ختاما قبل قراءتى لهذه الوصية، كنت دائما أسائل نفسى لماذا انعقدت الراية لسلطان باشا ولم تنعقد لغيره فى قيادة النضال العربى فى تلك المرحلة؟ فكان الجواب بهذه الوصية.
ألا يجدر بدولنا وجامعاتنا ومؤسساتنا التربوية والثقافية أن تجعل من هذه الوثيقة درسا فى الوطنية، والزهد والحكمة والشجاعة؟
فيتعظ أولو الألباب، وتكون هذه الوصية خريطة عمل لمواجهة ما يخطط لسوريا وباقى المنطقة هذه الأيام.