نصف انقلاب .. نصف اتفاق

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 20 أغسطس 2012 - 1:00 م بتوقيت القاهرة

ما جرى جاء مباغتا فى توقيته وإخراجه لكنه لم يكن مفاجئا بأسبابه وشخوصه.

 

قبل خمسة أشهر سألت قائدا عسكريا كبيرا: «من وزير الدفاع القادم؟».. أجاب بكلمات مقتضبة: «إنه أمامك الآن» مشيرا إلى اللواء «عبدالفتاح السيسى» مدير المخابرات الحربية الذى كان يجلس بجواره.

 

 حججه فى تزكيته أنه أصغر أعضاء المجلس العسكرى سنا، وأن المؤسسة العسكرية تحتاج إلى تجديد دم شامل فى قياداتها التى «شاخت» فى مواقعها، وأن جيله يتعين عليه الآن أن يخلى تلك المواقع لجيل جديد من القادة العسكريين يتولى إعادة الانضباط للقوات المسلحة عند عودتها لمهامها فى حفظ الأمن القومى، ورفع مستويات التدريب تأهبا لأية احتمالات تطرأ.

 

فى هذا الحوار الذى لم يكن للنشر وشهد وقائعه ثلاثة من كبار الصحفيين قال القائد العسكرى البارز: «هذا ليس رأى وحدى.. إنه تفكير المشير حسين طنطاوى نفسه».

 

فى «لائحة الأقدمية العسكرية» يحتل «السيسى» المرتبة (١٥٤)، ولم تكن تلك هى المشكلة، فهو «الأنسب» وإن لم يكن «الأقدم»، مطلع على أحوال القوات المسلحة، يتابع ملفاتها، تولى بتكليف من المشير إعداد خطة طوارئ للدور الذى يمكن أن يلعبه الجيش عند الانتقال المحتمل للسلطة من «مبارك» إلى نجله الأصغر «جمال». توقعت خطة الطوارئ أن يبدأ سيناريو نقل السلطة فى مايو (٢٠١١) وأن تصحبه احتجاجات واسعة قد تستدعى تدخل القوات المسلحة لإجهاض هذا السيناريو. الخطة نفذت فى سياق مختلف مع اندلاع ثورة يناير.

 

الذين قدر لهم أن يستمعوا للواء «السيسى» لساعات مطولة، وهو يروى وقائع ما جرى داخل القوات المسلحة فى أيام الثورة الأولى، راودتهم فكرة أن اللواء الشاب، الذى اسندت إليه مهمة شرح الموقف بتفاصيله لممثلى التيارات السياسية والشخصيات العامة والإعلامية، هو رجل المؤسسة العسكرية القوى.

 

الرجل لم يتسن له أبدا الخروج أمام الإعلام. متحدث طلق، تفكيره مرتب، واضح فى أفكاره، عنده عمق استراتيجى ظاهر فى حديثه عن الإقليم والتحديات فيه، يدرك أن المشكلة الاقتصادية هى الأولى بالرعاية وأنها المنطقة الرخوة التى تتولد فيها وحولها سلسلة متوقعة من الأزمات.

 

تعرض لمحاولتى اغتيال معنوى للحيلولة دون صعوده فى وزارة الدفاع. المحاولة الأولى، عندما اتهمته صحيفة يومية حزبية فى مانشيتاتها الرئيسية بعد أحداث شارعى «محمد محمود» و«مجلس الوزراء» بارتكاب اغتيالات فى محيط ميدان التحرير. فى اليوم التالى نشرت الصحيفة ذاتها بورتريها عن الفريق «سامى عنان» رئيس الأركان فى ذلك الوقت يثنى عليه ويشيد بأدواره.

 

كانت تلك أزمة مكتومة داخل المجلس العسكرى، ونسب للفريق «سامى» أنه وراء النشر لتصفية «عبدالفتاح» والحيلولة دون صعوده إلى مقعد المشير.

 

 فى تلك اللحظة بدا أن رجلين يتنافسان على المقعد ذاته. أولهما، بحكم منصبه كرئيس للأركان والرجل الثانى فى الدولة، وهو رجل طموح فكر طويلا وجديا أن يترشح للرئاسة، ولكن المشير أغلق الأبواب دونه معلنا أنه لن يترشح أحد من المجلس العسكرى لرئاسة الدولة.. اقترب من جماعة الإخوان المسلمين، وقرأ الفاتحة مع «مرسى» قبل أن يصعد الأخير رسميا لرئاسة الجمهورية على «الولاء والإخلاص». عندما شاعت القصة داخل العسكرى قال له قائد آخر: «لقد أهنت المؤسسة العسكرية».

 

 وثانيهما، رجل يعمل فى الظل فى يده مفاتيح القوة، حاور قيادات الجماعة، وشهد واقعة «الفاتحة»، كان رأيه سلبيا، وكان رأى «مرسى» بدرجة السلبية ذاتها لكنه جاراه ولم يكن مطمئنا إليه.

 

 المحاولة الثانية، عندما وصفته إحدى الفضائيات الخاصة بأنه «إخوانى» وأن السيدة قرينته «منتقبة». لم يكن ذلك صحيحا، فالسيدة قرينته «محجبة» شأن أغلب قرينات أعضاء المجلس العسكرى، متدينات لكنه ليس فى جماعة الإخوان المسلمين.

 

فى هذه المحاولة تبدت صراعات أجهزة بين المخابرات العامة والمخابرات الحربية. «العامة» هُمشت بعد الثورة، و«الحربية» تصاعد دورها. لاحت شكوك وظنون أن الأولى وراء تلك الفضائية وما يبث فيها، وأن الهدف هو ذاته: الإطاحة بـ«السيسى» والحيلولة دون توليه مناصب أعلى من بينها رئاسة المخابرات العامة.

 

فى الحالتين أفلت «السيسى» من التصفية المعنوية وقاد «نصف انقلاب ونصف اتفاق» صعدا به إلى قيادة القوات المسلحة. هو رجل يتقن التخطيط والتدبير ويعمل على مهل، ومن عباراته: «لا تتعجلوا الأمور»، لكنه هذه المرة تعجلها. فقد كان من المقرر أن يغادر المشير موقعه فى أكتوبر المقبل. كانت المفاجأة مباغتة فى توقيتها، فـ«السيسى» نفسه هو الذى أدار عملية إعادة إسناد وزارة الدفاع للمشير «طنطاوى» فى الحكومة الجديدة. كانت هناك خطة جرى التبكير بها. بحسب قائد عسكرى قريب من «السيسى» فإن الرئيس «مرسى» هو الذى طلب التبكير، وربما تعود الأسباب إلى قلق اعترى الجماعة من تداعيات محتملة لتظاهرات (٢٤) أغسطس، أو لأسباب أخرى قد تكشف عن أسرارها تاليا.

 

هناك سؤال حائر عن دور البنتاجون: هل جرى إخطاره بصورة مسبقة؟.. الأغلب أنه كان على علم وإشاراته الخضراء أفسحت الطريق واسعا أمام نصف انقلاب.

 

 جرت إزاحة ثلاثة جنرالات فى يوم واحد بذرائع مختلفة، كل ذريعة لها منطقها ووجاهتها، أطيح باللواء «مراد موافى»، مدير المخابرات العامة، بذريعة أنه تحدث لوكالة أنباء «الأناضول» عن معلومات قدمها للسلطات المسئولة، فى إشارة للرئيس والمشير معا، تفيد بأن هناك عملية متوقعة فى رفح ضد قوات التأمين المصرية.. وأطيح باللواءين «حمدى بدين» قائد الشرطة العسكرية و«نجيب عبدالسلام» قائد الحرس الجمهورى بذريعة عدم تأمين موكب الرئيس أمام قصر «الاتحادية» عند عودته إليه بعد فشل التحاقه بجنازة شهداء رفح، فقد قذف بالطوب والأحذية، وكان التقدير العام داخل «العسكرى»: «عنده حق» فى أن يطلب من المشير بحكم نصوص الإعلان الدستورى المكمل استبدالهما بآخرين. الذرائع بدت مقنعة بذاتها، ولكن يبدو من حركة الأحداث أن تفكيرا انقلابيا وظف أحداث رفح وتداعياتها وجنازة الشهداء وما تبعها من احتكاكات بمهارة لاعب ماهر على رقعة شطرنج يحرك قطعه فى انتظار النقلة الأخيرة: «كش ملك».

 

أطيح بمدير المخابرات العامة حتى تطفأ الأنوار فى المجلس العسكرى، ولا تكون هناك عين أخرى تطلع على ما يجرى من اتصالات وترتيبات لإنهاء ازدواجية السلطة.. وأطيح بمدير الشرطة العسكرية حتى يصبح المشير بلا أنياب أو قدرة على إصدار أوامر باعتقال خصومه فى منازلهم، وأطيح بقائد الحرس الجمهورى الموالى للمشير حتى يصبح الرئيس آمنا فى قصره الرئاسى ويصبح المشير نفسه عندما يستدعى إليه هو الرهينة. وهذا ما حدث بالضبط. جرى استدعاء المشير للرئاسة وتبعه «عنان» وتم إخطارهما بقرار إقالتيهما. بدا المشير متماسكا ورجله «السيسى» يدخل إليه وزيرا للدفاع. أيقن فى لحظة أن كل شىء قد انتهى، وأنه جرى الانقلاب عليه.

 

بشكل أو آخر جرى استنساخ سيناريو إطاحة المشير «عبدالحليم أبوغزالة». استدعاء للرئاسة، أن ينتظر لفترة أطول من المعتاد بينما الوزير الجديد يحلف اليمين الدستورية أمام الرئيس. والفكرة هنا السيطرة على ردود الأفعال لحين الإمساك بمقاليد الأمور.

 

 فى المرتين تمت العملية بسلاسة، ولكنها استدعت فى حالة «طنطاوى» نصف اتفاق رافق نصف الانقلاب، فقد جرى إسناد وظائف مدنية رفيعة لقادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة: رئاسة هيئة قناة السويس للفريق «مهاب مميش» قائد البحرية ورئاسة الهيئة العربية للتصنيع للفريق «عبدالعزيز سيف الدين» قائدالدفاع الجوى ووزارة الدولة للإنتاج الحربى للفريق «رضا حافظ» قائد الطيران، لم يكن أحد منهم على علم مسبق بسيناريو إقالة «المشير» و«الفريق»، ولكن أغلب القادة مقتنعون بضرورات التغيير، وأن المشير ارتكب أخطاء سياسية فادحة أودت بسمعة القوات المسلحة، وأنه كان يتعين عليه الانسحاب من الحياة العامة يوم (٣٠) يونيو عند تسليم السلطة. قائد عسكرى كبير أخذ يترجى ويلح عليه فى المغادرة وإسناد وزارة الدفاع إلى جنرال شاب قاصدا «السيسى». المشير لم يلتفت للنداءات من داخل المجلس العسكرى، وكان عصبيا فى الحديث مع الرئيس حتى أن أحد رجاله قال له: «قد لا يتحدث معك مرة أخرى». غابت الرؤية وضعفت هيبة القيادة وأخذ المجلس العسكرى فى التحلل.

 

فى الحوار الذى جرى قبل شهور فى مكتب «السيسى»، وهو ذاته مكتب الفريق أول عبدالمنعم رياض، قال ما نصه: «إننا نفتقد قيادة فكرية ملهمة». وهذه كانت إشارة مبكرة لأزمة تتفاعل داخل الؤسسة العسكرية.

 

سقطت هيبة المشير تماما أمام رجاله عندما أخذ يؤدى التحية العسكرية مرة بعد أخرى للرئيس «مرسى»، كانوا يفضلون أن ينسحب قبل ذلك، كان الحاكم الفعلى للبلاد، ولا يصح له أن يحضر اجتماعا برئاسة رئيس وزراء من سن أبنائه كاد لا يصدق نفسه عندما التقى المشير لأول مرة. لماذا يقبل ذلك على نفسه؟. اقترحوا عليه أن يظل رئيسا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وأن يتفق مع «مرسى» على تعيين وزير دولة للدفاع من بين أعضاء المجلس، كان أبرز اسمين: اللواء «عبدالفتاح السيسى» واللواء «صبحى صدقى» قائد الجيش الثالث الذى أصبح بعد نصف الانقلاب رئيسا لهيئة الأركان. ليست هناك أدنى مفاجأة فى صعود الاثنين، وما يؤكده «السيسى» و«العصار» من أن ما جرى فيه توافق وتشاور داخل القوات المسلحة حقيقى، ولكنه ليس كل الحقيقة. قضية الفريق أول «السيسى» الآن أن تعود القوات المسلحة «بما تبقى لها من كبرياء» إلى ثكناتها، وهذا نص تعبيره، وأن تضمد جراحها مؤدية دورها فى حماية الأمن القومى. وأمامه تحديان كبيران. أولهما، أن يمنع بصرامة تسييس المؤسسة العسكرية والكلام المتواتر عن «كوتة» للإخوان المسلمين أو لأى تيار سياسى آخر فى دفعات طلاب الكلية الحربية. هذا خط أحمر والتهاون فيه خطيئة كبرى بحق البلد وأمنه القومى وسلامة القوات المسلحة. وثانيهما، أن يثبت بالتصرفات أنه لم تجر عملية خيانة داخل القوات المسلحة لصالح تيار أو جماعة، وأنه وقف مع شرعية الرئيس لا مع جماعة أو حزب، وهذه مسألة ضرورية لاستعادة الروح المعنوية المشروخة بفداحة.

 

فى اليوم التالى لإقالته ذهب المشير كالعادة إلى مكتبه. انفرد لوقت قصير مع الفريق أول «السيسى»، لم يعاتبه على الطريقة التى خرج بها من وزارة الدفاع، لم يسأله عن الأسباب التى دعته لفعل ذلك وهو مرشحه الأول للمنصب العسكرى الكبير. قال له كلمة مقتضبة: «أنت ابنى»، وهو كان كذلك فعلا، فقد عمل «السيسى» تحت قيادة المشير فى الأمانة العامة للقوات المسلحة وهو برتبة «مقدم». بعبارة وزير الدفاع الجديد: «كنت مقدما والمشير مشيرا». المسألة أكثر تعقيدا مما يتبدى، وهناك مرارات داخل القوات المسلحة، الوزير قال لى بنفسه: «أنت لم تكن معنا فى مسرح الجلاء وأمامى (١٢٠٠) ضابط أخاطبهم، أكثر ما أوجعنى أنى رأيت الدموع فى عيونهم». المشكلة يلخصها اسم المشير. الرجل صامت لا يرد على اتصالات، والقادة الكبار، وأولهم «السيسى» عندهم عقدة استحدثت، وهى «عقدة الأب» الذى جعلوه يغادر موقعه مهانا. من ناحية سياسية، فإن المشير يتحمل وحده المسئولية الأكبر فى إخفاق المرحلة الانتقالية وأن نصل إلى النقطة التى نحن فيها الآن، لكن هناك اعتبارات أخرى كامنة ومعقدة. أسوأ التصرفات فى كل ما جرى تلك التظاهرات التى خرجت تنسب إلى «مرسى» ثورة تصحيح جديدة كالتى وصف بها «السادات» انقلاب (١٥) مايو (١٩٧١)، الأمر هذه المرة مختلف، والوقائع مختلفة والأسباب متباينة، والهتافات تعرقل مهمة «السيسى» فى إعادة الروح المعنوية للقوات المسلحة، فالجيش مجروح ومهان، وكاد ينقصنا أن تهتف التظاهرات: «افرم افرم يا مرسى» على النحو الذى هتف به لـ«أنور السادات».

 

حكايات «الفرم» و«أخونة الجيش» و«التكويش على الدولة» تصورات قد تفضى إلى نتائج وخيمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved