مطار شفيق ودولة اللواءات

عمرو الشلقاني
عمرو الشلقاني

آخر تحديث: الإثنين 20 أغسطس 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

ذهبنا فى المقال السابق إلى أن الإصلاح الدستورى وحده لن يصب فى اتجاه التغيير الثورى بالمطلق ما لم يصب هذا الإصلاح معه قلب المنطق القانونى للنظام الحاكم قبل الثورة أيضا.

 

وهذا المنطق تختلف اسماؤه وتركيباته من لحظة ثورية إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى، بل ومن حى إلى آخر، وفى مصر اليوم أبسط ما نعلمه جميعا أن النظام المراد إسقاطه هو «نظام يوليو»، وأن منطق هذا النظام فى الحكم يقوم على علاقة غير حميدة بين «القانون والأمن»، علاقة تعايشت معها نخبتنا القانونية على مر ستة عقود، كان لها الأثر الأكيد فى افساد العمل بمؤسسات الدولة المختلفة.

 

ورغم اختلاف أساتذة العلوم السياسية فى تعريف «نظام يوليو» وبيان خصائصه، فهناك شبه إجماع على التعامل مع جوهر النظام على أنه مزدوج البنيان، بما يمكن اختزاله نظريا بأنه نظام «مدنى المذهب / عسكرى الهوى»، وبما يميزه بحالة من الاحتكاك المستمر بين متطلبات «الأمن» الخاصة بالحفاظ على نخبة النظام الحاكم ومصالحها من جانب، ومتطلبات العمل المنتظم لمؤسسات الدولة المختلفة من جانب آخر، من وزارات ومصالح وهيئات حكومية.

 

هذه الازدواجية لها مبررها فى سياقنا التاريخى، فقد قام انقلاب الجيش سنة 1952 بينما مصر تحكمها نخبة قانونية متغلغلة فى شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وصلت إلى ما كانت عليه من ازدهار بعد قرن ونصف من الاصلاحات القانونية فى البلد، فكان لابد من إيجاد علاقة مع هذه النخبة القديمة، واسلوبها فى الحكم، إذا كان للضباط الأحرار من أمل فى نجاح حركتهم.

 

ومن هنا كان ادعاء نظام يوليو التزامه بسيادة القانون واحترام أحكام القضاء منذ بدايته، حسبما فعل رؤساء الجمهورية المتعاقبين على حكم مصر، أتوا جميعهم من الجيش واختاروا خلع زيهم العسكرى والحكم بالبدلة المدنية، مستعينين فى ذلك بالحزب الواحد والبرلمان الخانع والشرطة المتواطئة فى حماية النظام.

 

فبعد القضاء على جميع الاحزاب والحركات السياسية فى مصر أعقاب أزمة مارس 1954، أصبحت الساحة خالية تماما من أى تنظيم سياسى يستطيع ضباط الجيش تحريك الشعب من خلاله وحشده لتأييدهم، وهم فى ذلك نخبة جديدة، قليلة العدد فى الأصل.

 

فكان مد جسور التعاون والاستقطاب إلى طبقات المجتمع المختلفة، والتى أخذ معها «القلب الأمنى للنظام» إلى التغلغل فى جميع مؤسسات الدولة، سواء تنظيميا بإنشاء هيئة التحرير ثم الاتحاد الاشتراكى فالحزب الوطنى، أو وظيفيا بتعيين رجال الجيش فى المؤسسات والهيئات وادارات الشركات المختلفة، أو قانونيا عن طريق اعتماد الاحكام العرفية ثم الطوارئ كحجة مستمرة لنظام عسكرى يدعى المدنية. 

 

حال كهذا استمر من عهود الاشتراكية الماضية وحتى عصر الخصخصة الأخير لابد وأن تكون محصلته الأخيرة علاقة تصادمية بين «القانون» و«الأمن»، تطغى فيها هواجس الثانى دوما على متطلبات الأول، وبحكم القانون، حتى أصبح مجرد استخراج تصريح دخول سيارة عضو هيئة التدريس إلى حرم جامعة القاهرة مثلا يتطلب موافقة «الأمن»، كما أصبح مجرد الاطلاع على الأحكام الصادرة من قضائنا فى القرن التاسع عشر مرهونا هو الآخر بموافقة «الأمن» فى دار الكتب والوثائق القومية... الخ.

 

حال كهذا لن ينصلح بالإصلاح الدستورى وحده، مهما حسنت النوايا، ولن يتم اسقاط نظامه الحاكم بمجرد عزل بعض رءوسه عن العمل، أو إحالتها للمعاش.

••

إذا كان تعريفنا السالف لنظام يوليو وعلاقة القانون بالأمن فيه تتسم بالتجريد الأكاديمى بعض الشىء، فلن نجد أدل عليه فى التطبيق العملى من ذلك التناقض الذى يحكم قطاع النقل الجوى فى مصر اليوم، ما بين منظومة قانونية غرضها حسن إدارة العمل من جانب، ومنظومة أمنية أدت الى تخبط تنظيمى وإهدار لطاقات العاملين بالقطاع من جانب آخر، وبكل ما يشاع عنها فى الصحف من فضائح الفساد المالى المقدم بها بلاغات الى مكتب النائب العام.

البداية التنظيمية للقطاع كانت فى 23 مايو 1935، حين صدر أول مرسوم ملكى بقانون فى شئون الملاحة الجوية، والذى استمر فى التنظيم الأساسى لهذا المجال حتى صدر القرار الجمهورى بإنشاء الهيئة العامة للطيران المدنى سنة 1968، لتتحول بذلك مصلحة الطيران فى وزارة الدفاع إلى قلب هذا الجهاز الادارى الجديد.

وفى 3 يناير 1971 قام السادات بإنشاء وزارة الدولة للطيران المدنى، وتم تكليف الفريق أحمد نوح بتوليها، وقد انتهى الحال بأول وزير «عسكرى» للطيران «المدنى» فى مصر بالإحالة للقضاء فى تهمة التربح وإهدار المال العام سنة 1979، فى قضية طائرات «بوينج»، بعد أن حكمت محكمة النقض حكمها التاريخى باختصاص القضاء العادى فى محاكمة الوزراء على الجرائم التى تقع منهم أثناء العمل أو بسببه.

 

واختفت وزارة الطيران المدنى من منظومة العمل الحكومى بعد ذلك لفترة طويلة، فتم إلحاق اختصاصاتها بوزارة السياحة بين السنوات 1974و1993، ثم إلى وزارة النقل بعد ذلك فى عهد سليمان متولى، حتى كان القرار الجمهورى فى مارس 2002 بإنشاء وزارة مستقلة للطيران المدنى، وتكليف الوزير الجديد، الفريق احمد شفيق، بتولى مهامها.

 

وقد صاحب تعيين الفريق شفيق كأول وزير للطيران المدنى منذ عهد الفريق نوح صدور مجموعة من القرارات الجمهورية فى نفس السنة، جميعها متصل بإعادة هيكلة مرفق الطيران فى ظل صعود تيار الخصخصة وتسلطه فى لجنة سياسات الحزب الوطنى المنحل.

 

فتم إنشاء الشركة القابضة للطيران ويتبعها الشركة المصرية للمطارات، والشركة الوطنية لخدمات الملاحة الجوية، ثم صدر القرار الجمهورى رقم 137 لنفس السنة بتحويل مؤسسة مصر للطيران إلى «الشركة القابضة لمصر للطيران»، وتتبعها شركة مصر للطيران للخطوط الجوية، وشركة مصر للطيران للخدمات الأرضية، وشركة مصر للطيران للشحن الجوى، وشركة مصر للطيران للصيانة والأعمال الفنية، وشركة مصر للطيران للسياحة، وشركة مصر للطيران للخدمات الجوية، وشركة مصر للطيران للخدمات الطبية.

 

وأخيرا فى نفس العام صدر القرار الجمهورى رقم 154 لسنة 2002 بإلغاء الهيئة المصرية للرقابة على الطيران المدنى، ونقل صلاحياتها الرقابية الى وزارة الطيران المدنى، ثم القرار الجمهورى رقم 156 لسنة 2002 بتحويل هيئة ميناء القاهرة الجوى إلى شركة هى الأخرى، تابعة للشركة المصرية القابضة للمطارات والملاحة الجوية، وتسمى «شركة ميناء القاهرة الجوى».

 

فى هذا الاطار الادارى الجديد ظهر الفريق شفيق على الساحة، وظهر معه مشروع إنشاء مبنى الركاب رقم 3 فى ميناء القاهرة الجوى، أو «مطار شفيق» كما أصبح البعض يسميه، والذى أصبح محل اهتمام عابر من الصحافة فى الشتاء الماضى عندما انتشرت الصور الجرادل فى بهو المبنى تلتقط ما يصيبها من تنقيط مياه الأمطار عن سقف المبنى الجديد.

 

وأدى تواصل الأمطار كما قد يعلم القارئ إلى غلق الممر الجديد لمبنى الركاب رقم 3، ونزول الطائرات على ممرات المطار القديمة، حيث إن سوء التنفيذ الإنشائى للممر الجديد أدى لعدم وجود مخارج صرف مياه الامطار من الممر أصلا، كما هو معتاد على الأقل بكورنيش الإسكندرية فى الشتاء مثلا.

ثم أدى استمرار ركود المياه فى الممر إلى تلف الشبكة الكهربائية بالكامل، فسقط المطار الجديد فى ظلام لا يجوز معه قيام اى حركة جوية، من هبوط او إقلاع أو خلافه، فتم غلق الممر ومبنى الركاب، وثارت التساؤلات مرة أخرى عن مدى حاجة الدولة لهذا الممر والمبنى الجديد أصلا، بعد أن استوعبت طاقات المطار القديم جميع خدماته؟

 

ثم ثارت الشائعات بالصحافة أن غرض الممر الجديد كان إبعاد الطيران وضوضائه عن منزل الرئيس المخلوع حسنى مبارك، أو أن شركة خدمات الطيران تحت نفوذ أحد أقارب سوزان ثابت، أو أن شركة مصر للطيران مدانة بمبالغ كبيرة، ولا تدفع ما عليها للمطار من رسوم اقلاع وهبوط واستخدام المواقع الصلبة أو الكبارى، بعكس سائر الشركات الاخرى، وأن المطار نفسه مدان كذلك، ما بين تسديد قرض مبنى الركاب 3، والحاجة للدخول فى قرض جديد لتمويل اصلاحات مبنى الركاب 2.

 

ومما لا شك فيه أن مطار شفيق دخل فى ظل سياسات الخصخصة للجنة السياسات إلى تبنى منهج فى تسقيع الأراضى لا يختلف كثيرا عن المنهج الفاسد لوزارة الاسكان قبل الثورة، والمطلع على مطارات العالم لا يمكنه سوى التعجب على حال مطارنا وقد تحول إلى مشروع تجارى عملاق، مدينة داخل المدينة، بها مول وفنادق، ولو باساج، وفسح ومراجيح وشيشة وأولاد رجب، وحالة من التوهان المستمر لسيارات الأجرة والملاكى فى أرجاء أرضه الشاسعة.

•••

أما فصل المقال فيما بين «مطار شفيق» و«نظام يوليو» من اتصال، فنجده فى العقلية الأمنية المسيطرة على عمل طيران المدنى/العسكرى بالوزارة وشركاتها المتعددة، والتى دخلت فى مواجهة صريحة سنة 2007 عندما قام الفريق شفيق بجولة تفقدية للمطار وصرخ خلالها فى العاملين بأنه إله المكان وهم عبيده، حسب بعض الروايات، ثم كانت «دفعة الوزير» التى وقف العاملون بالمطار لها بالاعتصام وهم محقون فى ذلك.

 

فلواءات الجيش يكادون يحتكرون رئاسة جميع القطاعات بالوزارة والمطار وشركاته وخلافه، والعاملون بأى قطاع لا أمل لهم فى الترقى الوظيفى إلا بحدود معروفة، حيث إن الوظائف الكبرى لابد وأن تكون لعسكرى، ولا يتصور أبدا فى الطيران المدنى أن يجد العسكرى نفسه مرءوسا من مدنى، مضطرا لتنفييذ أوامره لا سمح الله.

 

ولمن يريد معرفة المزيد، أنصحه بزيارة موقع الفيس بوك لحملة «عودة وزارة الطيران المدنى بدون لواءات قوات جوية»، ومن بعدها موقع الفيس بوك لحملة رسم خريطة تشاركية اجتماعية عن احتلال العسكر للوظائف المدنية العامة فى البلد، ومنها الأجهزة الإدارية والتنفيذية والقطاع العام وأجهزة المال والاستثمار والقضاء والهيئات الدولية.

 

وإذا كان الرئيس مرسى قد وافق على اختيار وزير مدنى للطيران فى تشكيلة قنديل، واذا كان بعض العاملين بقطاع الطيران قد فرحوا بهذا الاختيار وتيمنوا به خيرا، نقول للقارئ إن السؤال الأهم هو كيف اصبح هذا الاختيار البديهى لوزير «مدنى»، لا مؤاخذة، يتولى مهام وزارة الطيران «المدنى»، لا مؤاخذة، كيف أصبح مثل هذا القرار البديهى معيارا يهتم به القارئ أصلا فى تحليل التشكيل الوزارى الجديد؟

 

ومنطق السؤال ذاته ينسحب أيضا على قرارات الرئيس مرسى الأخيرة، من إقالة محافظ سيناء الشمالية عقب الاعتداء المريب على جنودنا الشهداء قرب معبر رفح، وحتى إحالة المشير طنطاوى والفريق عنان للمعاش مؤخرا، وهى إن كانت قرارات نرى تأييدها بالكامل من أى منظور ثورى، فإنها أيضا قرارات نرى وجوب عدم المبالغة فى تقدير آثارها الثورية على الأرض بعد سته عقود من نظام يوليو، تحول معها العمل فى السواد الأعظم من مؤسسات الدولة إلى صورة أو أخرى من «مطار شفيق».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved