ضوابط التغيير

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 20 أغسطس 2012 - 12:50 م بتوقيت القاهرة

أثارت قرارات رئيس الجمهورية بإحالة العديد من القيادات العسكرية للتقاعد الكثير من الأسئلة حول بواعثها وتوقيتها وأبعادها، وهى كلها أسئلة سوف يهتم بها المؤرخون ولا توجد إجابة موثوقة عنها فى الوقت الحاضر، ولكن السؤال الذى ينبغى أن يشغلنا ونحن نرسى دعائم نظام سياسى يقوم على التعددية الحزبية هو مدى الحرية المشروعة لرئيس الجمهورية فى تغيير قيادات الدولة من عسكرية ومدنية، فلنسلم أننا نمر بظرف استثنائى وهو ثورة لم تكتمل، ولكن هذا الوضع فى حد ذاته هو الذى يقتضى إرساء تقاليد جديدة فى تعامل الرئيس المنتخب مع مؤسسات الدولة، فهل تكون لرئيس الدولة المنتخب حرية مطلقة فى إقصاء القيادات المدنية والعسكرية كما يشاء وإحلالها بغيرهم ممن يراهم أكثر ولاء له، أم يفترض أن تكون هناك ضوابط لمثل هذه التغييرات.

 

هذا ليس سؤالا أكاديميا محضا، ولكنه سؤال سياسى بامتياز، لأن أصواتا أخذت ترتفع، وليس فقط من جانب أنصار الرئيس فى حزب الحرية والعدالة، وجماعة الإخوان المسلمين، كلها تطالب الرئيس بأن يواصل ما سمته تلك الأصوات تطهير أجهزة الدولة ليس فقط فى القوات المسلحة ولكن فى أجهزة الشرطة والقضاء، وكذلك الإعلام أيضا، بينما أعرب آخرون فى أوساط ليبرالية ويسارية خشيتهم أن تكون كل هذه الإجراءات والنداءات خطوات على طريق سيطرة فصيل سياسى واحد على جميع أجهزة الدولة، فما هى أولا الضوابط التى ينبغى أن يراعيها الرئيس مرسى وأى رئيس منتخب بعده فى هذا المجال، وكيف تترجم هذه الضوابط إلى حدود على حرية الرئيس فى تغيير القيادات.

 

 

الضوابط

 

أول هذه الضوابط أن يراعى الرئيس أن قيادات مؤسسات الدولة من مدنية وعسكرية هى قيادات تخدم الدولة المصرية فى الأساس، وليست أدوات لخدمة أى حزب من الأحزاب، الدولة المصرية قائمة منذ سبعة آلاف سنة، وعمر أى حزب فى السلطة قد لا يتجاوز بضع سنوات. ومع سقوط نظام الحزب الواحد فقد انتهى التماهى بين الحزب والدولة.

 

من ناحية أخرى فإن قيادات هذه المؤسسات يجب أن تخدم بنفس الإخلاص والكفاءة أى حزب يصل إلى سلطة الحكم بشرعية أغلبية الناخبين، وعندما يحل حزب آخر محله، لأن هذا الحزب الآخر حصل على أغلبية الأصوات فى انتخابات تالية، فإن هذه القيادات يجب أن تخدمه بذات الإخلاص والكفاءة.

 

وثانى هذه الضوابط هو التمييز بين القيادات السياسية والقيادات الإدارية، ورغم أن الفواصل بين السياسة والإدارة ليست صارمة وحادة، إلا أنه من الواضح أن هناك مسئولين مهمتهم الأولى صنع السياسات، وهناك موظفون مهمتهم الأساسية هى تنفيذ هذه السياسات. وفى نظامنا السياسى الوزراء هم المكلفون بصنع السياسات، وسائر العاملين فى وزاراتهم ابتداء من وكيل الوزارة إلى اصغر العاملين فيها مكلفون بتنفيذ هذه السياسات.

 

وثالث هذه الضوابط هو ضرورة اشتراط الكفاءة وليس فقط الولاء فيمن يختاره الرئيس لشغل أى من المناصب الرئيسية فى جهاز الدولة. الولاء للرئيس باعتبار منصبه هو أمر مفروغ منه، فلا معنى لأن يقبل شخص العمل مع الرئيس إذا كان لا يشعر بواجب الولاء للمنصب أيا كان حكمه على السمات الشخصية للرئيس، ولكن الرئيس مطالب بأن يختار لمثل هذه المناصب أفضل من تتوافر فيهم الكفاءة والخبرة لشغلها حتى يكونوا بالفعل مكسبا للرئيس فى إدارة لشئون الدولة وليسوا عبئا عليه وعلى المجتمع.

 

ورابع هذه الضوابط هو تحقيق الاستقرار فى جهاز الدولة، فكثرة تغيير كبار المسئولين تبعث على القلق بين كبار المسئولين أنفسهم، فلا يهتمون بوضع سياسات للأمد المتوسط أو الطويل، لأنهم لا يثقون فى إمكانية بقائهم فى مناصبهم لفترة طويلة، كما أن عدم استقرارهم يقلل من حماس الموظفين التابعين لهم فى تنفيذ سياساتهم، وبطبيعة الحال يقلل ذلك من ثقة المواطنين فى استمرار أى سياسات للدولة، فيستبد بهم القلق، ويحجمون عن المخاطرة بأموالهم فى مشروعات لا يتحقق عائدها إلا فى الأمد البعيد مفضلين عليها الكسب السريع، أو يوظفون أموالهم حيث يتوافر الاستقرار، وغالبا ما يكون ذلك فى دول أجنبية مشهود لها بهذا الاستقرار.

 

 

ضرورة تحقيق الاستقرار المؤسسى فى ظل نظام التعددية الحزبية

 

ولهذه الأسباب فقد جاهدت النظم التى تقوم على التعددية الحزبية فى تقييد سلطة رئيس الدولة، فى النظم الرئاسية أو رئيس الوزراء فى النظم البرلمانية، فى تغيير الموظفين فى أعقاب الانتخابات التى تأتى بأى منهما رئيسا للسلطة التنفيذية، وكان ذلك هو الدافع للعدول عما كان يسمى بنظام الغنائم والذى كان يطلق يد الحزب المنتصر فى تغيير الموظفين وإحلاله بإصلاح الخدمة الحكومية على نحو يحقق لها هذا الاستقرار. وفى حالتنا فى مصر فقدرة الرئيس القادم على التغيير يجب أن تقتصر على كبار العاملين فى رئاسة الجمهورية من مستشارين وهيئة مكتبه، وعلى كل الوزراء فى ظل النظام الرئاسى أو وزراء الدفاع والخارجية والداخلية فى ظل النظام المختلط وبالتشاور مع رئيس الوزراء. ولكن يبقى كبار المسئولين الحكوميين الآخرين فى مناصبهم.

 

وتوضيحا للمقصود بذلك فهناك خمس مؤسسات كبرى هى مؤسسات الدولة لا ينبغى أن تتبدل قياداتها مع تغير رئيس الجمهورية وهى تحديدا القوات المسلحة والشرطة والقضاء والمؤسسات المالية والمصرفية والإدارة الحكومية بل والإعلام حفاظا على الاستقرار وتأكيدا لولاء هذه المؤسسات للدولة وليس لأى حزب.وهكذا تقتصر سلطة الرئيس بالنسبة لكل منها على تغيير صانع السياسة وليس منفذيها، فمن حق الرئيس تعيين وزير الدفاع ويمكن أن يكون مدنيا، ولكن القائد العام للقوات المسلحة هو ضابط محترف ويجب ألا يتغير لا هو ولا قيادات القوات المسلحة الأخرى مع تغيير الرئيس، ووزير الداخلية فى جهاز الشرطة هو من يختاره الرئيس، ولكن كبار ضباط الشرطة خادمون للشعب ولا يتغيرون مع كل انتخابات، وينطبق نفس الأمر على كل القضاة بما فى ذلك النائب العام الذى يختاره مجلس القضاء الأعلى، ويقتصر التغيير فى جهاز الخدمة المدنية بعد الانتخابات على مكتب الوزير ومستشاريه مع بقاء جميع القيادات الإدارية الأخرى حتى منصب وكيل الوزارة، كما يمكن للرئيس تغيير المحافظين باعتبارهم ممثلين لرئيس الدولة إذا لم يشترط الدستور الجديد انتخابهم كما يبقى رؤساء الأجهزة الرقابية مثل الجهاز المركزى للمحاسبات وجهاز التنظيم والإدارة والرقابة الإدارية فى مناصبهم وكذلك رؤساء البنوك والمؤسسات الاقتصادية التابعة للدولة، كما تبقى مؤسسات الإعلام على استقلالها.

 

أعرف أن ما اقترحه يبدو غريبا لكثيرين، ولكن تلك هى روعة الانتقال من حكم الفرعون إلى حكم المؤسسات، ومن الولاء لحزب واحد إلى الولاء للدولة وشعبها.

 

 

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ومدير شركاء التنمية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved