الصندوق

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: السبت 20 أغسطس 2016 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

كثيراً ما نسمع عبارات مثل: "نحتاج إلى حلول غير تقليدية" و"يجب أن نفكر خارج الصندوق".. إلخ عندما تكون هناك مشكلة صعبة نواجهها في أي مجال، وكثر استخدام عبارة "خارج الصندوق" حتى أصبحت مرادفة لعبارة "حل مبتكر" وهذا حقيقى ولكن لا يجب أن ننسى أنه في كثير من الأحيان يكون من الأفضل اختيار الحل المناسب حتى لو كان هذا الحل "في الصندوق"! فما هي حكاية الصندوق؟

الصندوق هو المعروف من طرق الحل أو المعروف من فرع من فروع المعرفة، إذا فالتفكير خارج الصندوق هو تفكير خارج الأطر المعروفة، هذا جميل ولكن قبل أن تفكر خارج الصندوق ينبغي أن تعلم أولاً كل شيء عن الصندوق! لن تستطيع أن تبتكر الجديد قبل أن تعرف كل شيء عن من سبقوك في هذا العلم أو التكنولوجيا، لهذا قبل أن تقول إنك وصلت إلى كشف كبير أو حل "خارج الصندوق" يجب أن تكون قد درست هذا العلم دراسة دقيقة ودرست الحلول السابقة ولماذا نجحت ومتى تنجح ومتى تفشل وهل يمكن استعمالها في المشكلة الحالية أو في السؤال البحثى الحالى.

هل سمعت من قبل عن عقار يسمى "الفؤادين" (Fouadin)؟ هذا العقار كان يستخدم تاريخيا (في النصف الأول من القرن العشرين) في علاج البلهاريسيا، وكانت تنتجه شركة ألمانية وسمته بهذا الاسم تكريماً لفؤاد الأول! هل تعرف من صاحب فكرة هذا العقار؟ إنه الدكتور المصرى العبقرى محمد خليل عبد الخالق أستاذ طب المناطق الحارة، هذا العقار كان وقتها كشفاً كبيراً وأكيد هو خارج الصندوق ولكى يصل له الدكتور عبد الخالق درس الطب من سنة 1913 وحتى 1917 بمدرسة طب القصر العينى وتخرج فيها وكان الأول على الدفعة بفارق كبير جداً عن الثانى، هذا دليل كبير على المجهود الكبير الذى كان يبذله في التحصيل، هذا هي الخطوة الأولى: بناء الأساس العلمى السليم، في هذه الخطوة عرف الدكتور عبد الخالق أبعاد الصندوق، تأتى الخطوة الثانية عندما سافر إلى لندن منذ عام 1918 وحتى عام 1920 وتعمق في علم الطفيليات على يد أساتذة كبار في هذا العلم، هنا تعمق الدكتور العبقرى في دراسة الصندوق وأصبح ملما به إلماما تاما، الآن أصبح مهيأً لحل المشكلات المتعلقة بالطفيليات وأمراض المناطق الحارة وهنا تأتى المرحلة الثالثة: ما هي المشكلات الملحة التي تتطلب حلول؟ وهل يمكن حلها من داخل الصندوق؟ أم تستلزم حلا خارج الصندوق؟ في هذه المرحلة عاد الدكتور محمد خليل عبد الخالق إلى مصر وعُين وكيلًا لقسم الأمراض المتوطنة بمعامل وزارة الصحة وأيضاً عمل بتدريس علم الطفيليات بمدرسة الطب ومن هنا علم المشكلات المهمة ومن هنا ابتكر عقار الفؤادين. حل خارج الصندوق لأن في ذلك الوقت لم تكن هناك حلول ناجحة للبلهارسيا إذا فالصندوق لم يكن به حلول. الحقيقة أن حياة الدكتور عبد الخالق يجب أن تدرس وقد نتحدث عنه في مقال مستقل وعن أبحاثه التي فاقت المائتين من الأوراق البحثية.

قد يقول قائل: فماذا عن الاكتشافات التي نسمع ونقرأ عنها من أشخاص صغيرين جدا في العمر (المرحلة الإعدادية مثلا) وقد اكتشفوا اكتشافات مهمة؟ وماذا عن الناس الذين أبدعوا في مجالات ليست في مجال دراساتهم؟

أولا أغلب "الاكتشافات" من أطفال أو مراهقين لم يُحَصِلوا بعد الحد الأدنى من التعليم فضلا عن أن يكونوا قد تعمقوا فيه لا تعتبر اكتشافات ولكن مجرد أنشطة يجب أن نشجع الأطفال عليها ونشجعهم على المضي في الدراسة ثم البحث العلمى ولا نخدعهم بأنهم اكتشفوا شيئا جديدا، لا يوجد علماء في سن العاشرة أو الخامسة عشرة مهما بلغ هؤلاء الصبية من العبقرية لأن دراسة الصندوق تحتاج عدة سنوات.

ثانيا بخصوص من ابتكروا ابتكارات مهمة أو اكتشفوا اكتشافات علمية كبيرة مثل ابتكار العالم الألماني الكبير جوتفريد ليبنز (Gottfried Leibniz) لعلم التفاضل والتكامل (في نفس الوقت الذى ابتكره فيه نيوتن) وهو يحمل الدكتوراه في القانون نجد أن هؤلاء الأشخاص قد أمضوا سنوات عديدة في دراسة هذا العلم قبل أن يقدموا ابتكارهم، فهم و إن كانوا لم يحصلوا على درجة علمية في تخصص ما فقد حصلوا هذا العلم عن طريق البحث والقراءة والمناقشة مع العلماء الآخرين حتى عرفوا كل شيء عن "الصندوق" قبل أن يفكروا خارج الصندوق.

هناك عامل آخر قد يدفع عالم في تخصص إلى اكتشاف علمى في تخصص آخر دون أن يتعمق في العلم الآخر بالدرجة الكافية مثل الكيميائى الفرنسي لويس باستور (Louis Pasteur) الذى توصل إلى ما نطلق عليه اليوم اللقاحات أو التطعيم (vaccines) وهو اكتشاف أقرب إلى أنه اكتشاف طبى وقد ابتكر نفس الشئ العالم الألماني الكبير روبرت كوخ (Robert Coch) ولكن بطريقة أخرى وكان بينهما منافسة شديدة تقترب من العداء (هذه قصة أخرى)، لكن إذا نظرنا بعمق لتلك الاكتشافات لوجدنا أنها تحتاج تخصصات عدة ويمكن النظر لها من عدة جوانب لهذا يمكن اكتشاف نفس الشئ من تخصصات عدة وهذا لا ينفى الدراسات المتعمقة.

قد نجد عازف موسيقى أو رسام أو رياضى (من الرياضة لا الرياضيات) في سن صغيرة لأن هذه الأشياء تعتبر مهارات ولكنك لن تجد عالم فيزياء أو كيمياء في العاشرة أو الخامسة عشرة من العمر لأن هذا علم!

قبل أن تطمح في الشهرة والمجد بابتكارات خارج الصندوق عليك أولا أن تعلم كل شيء عن الصندوق!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved