نساء يعدن اكتشاف الرجل

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 20 أغسطس 2019 - 11:30 م بتوقيت القاهرة

كان كبقية أيامى خلال آخر عامين يوما طويلا. أعود منهكة جسديا ونفسيا. أخلع بعض ملابسى وأرتدى أخرى. أدخل المطبخ وأفتح الثلاجة فأجد ما تعودت أن أراه ولكن بأحجام أو كميات متغيرة. يتسرب إلى نفسى الملل وأنا أقف أمام ثلاجتى ذات المحتوى المتواضع ورغما عنى يصدر السؤال السخيف كثير التردد، أمن أجل هذا أقضى ساعتين أقود سيارة هى أيضا منهكة وأصعد الدرج مع آخرين متعبين بتعب مثل تعبى إلى مكاتب عملنا. هناك نقضى ثمانى ساعات نكد فى عمل مزمن. أسمع من رئيسى كلاما حلوا لا علاقة لأكثره بعملى، كلام حلو لا يشجى أو يحرك حسا. على كل حال هو الوحيد بين رجال العمل الذى استمر يقول لنا كلاما حلوا. لم نعد نسمع من غيره من الزملاء كلاما حلوا من أى نوع. نسمع نحن معشر نساء العمل الكلام الحلو الذى لا يتوقف رؤساؤنا عن النطق به ونتوتر. أما كلام زملائنا فكنا نسمعه ونرتاح. كان كلامهم كعطر ناعم يفوح من باقة الورد التى تعودنا أن نضعها فى زهرية على مائدة تتوسط صالة العمل، عطر يفوح على امتداد اليوم يلم ويحضن وأحيانا يبهج.
أقول كان وكنا وكانوا لأن لا شىء ولا أحد بقى على حاله، حتى نصفنا الآخر فى هذه الحياة وأقصد الرجل، صار فى حسابات أغلبنا، أغلب النساء، يحتل أقل من النصف المقرر له بديهيا. تذكر يا صديقى أياما، بل عقودا، بل أقصد قرونا، كنتم يا معشر الرجال تحتلون النصف الذى تستحقون وتجورون على النصف الذى هو من حق المرأة. تفهمنا وتحملنا وتأقلمنا ولكننا بالغنا فى كل هذا. هل كنا حقا من الضعف الذى يعرضنا للتهلكة فى ظروف مناخية قاسية وبيئة صعبة وبشر لم يتحضر فرضينا بتجاوزكم كل الحدود فى علاقتكم بنا. الخوف من عالم تفترس الكائنات بعضها البعض الآخر دفعنا لقبول عيش الحريم. ارتخينا فاستسلمنا لواقع فرضته علينا يا رجل، أو لواقع شاركناك كتابة نصوصه. ألم نكن نحن أصحاب لقب «سى السيد» والمنظومة التى يمثلها. من غيرنا كان يستطيع إعدادك وتأهيلك لتستحق هذه المكانة الأعظم وتفيها حقها من التبجيل؟. وقارك نحن رسمناه ثم صغناه ثم دربناك عليه ثم فرضناه معك على كل عيالك واهل الحى. صدقنى، جعلناك رجلا ثم سيد الرجال حتى تنمرت وطغوت.
جاء قرن فى الزمان ويوم غضبنا فيه غضبتنا العظمى، رحنا نبحث فى ماضيك عن شىء لا نعرفه، شىء غاب عنى أنا الأم والشقيقة والحبيبة والزوجة والابنة والزميلة والصديقة. ذهبنا إلى كل الأرجاء نجمع أخطاءنا وزلاتنا نحن النساء ونتعرف على الشيطان الذى أوقع بيننا وفتح فجوة تعصى على الردم.
***
تسألنى ماذا جرى لسى السيد؟ تقول إنك بعد بحث اكتشفت أن آخرين مثلك فى مجتمعات عربية عديدة يسألون السؤال نفسه، أين اختفى الرجال بمواصفات «سى السيد المصرى». لن أجيبك إجابة شافية ولكن أترك لنساء غيرى الفرصة ليحكين عن تجاربهن فى عصر «ما بعد سى السيد» علك تجد إجابة. تذكر ولا شك صديقتى، وهى أيضا جارتى فى السكن. اتصلت بى ليلة أمس. ما إن سألتها عن أحوالها العاطفية حتى اندفعت تحكى مرتبكة ومتأثرة. تقول إنها عادت من يوم ممل فى العمل وقد قررت أن تفعل شيئا مختلفا عما تفعله كل يوم. تذكرت أنها تعرفت قبل أسابيع خلال اجتماع عمل إلى رجل فى منتصف العمر، أو تجاوز المنتصف فبدا مقتربا من الخمسين. يومها عرض عليها استكمال حوار دار بينهما خلال لقاء فى مكان عام. قررت أن تتصل به وتعرض استكمال الحوار وتتركه يقترح المكان والوقت. تقول إنها ما كانت تختار الخروج مع رجل على هذا النحو لو أن الملل لم يتمكن منها. خرجت وليتها ما خرجت. كانت تجربة من جميع نواحيها كاشفة. الرجل، وهو مطلق ومن طبقة فوق مستوى الطبقات الصاعدة حديثا ويحتل منصبا يؤهله لمناصب اخرى أرفع، يقترح على امرأة حرة متعلمة تعليما راقيا وتؤدى مهام مرموقة وتعرف كيف تعتنى بجمالها وملبسها وافقت على الخروج معه، وأن تقابله بعد هبوط الليل فى محل هو بين المقهى والمطعم تصدر من جنباته موسيقى صاخبة بل وعنيفة إن صح وصف موسيقى بالعنف. لم يعرض أن يمر عليها أو أن ينتظرها عند مدخل «هذا الشىء» فلا يتركها تدخله منفردة تبحث بين الموائد عن رجل هى فى الواقع لا تذكر جيدا تفاصيله. اختار مكانا يؤمه ذوو الدخل المنخفض، وأغلبهم من أعمار أقل كثيرا من عمره وأقل من عمرها. لم تعرف إن كانت الدعوة تقتصر على تناول مشروبات أم يدخل فيها عشاء. جلس وطلب لنفسه مشروبا باردا فطلبت لنفسها مشروبا ساخنا. جلست فى مواجهة مرآة لتتساءل طول الوقت عما تفعلة امرأة إلى هذا الحد جميلة وأنيقة مع رجل إلى هذ الحد غير مكترث براحتها وحاجتها ورغباتها، قضت اللقاء وعيناها مثبتتان على المرأة فى المرآة وعيناه، كما لمحت بطرف عينيها، تلاحقان نساء بعضهن مراهقات وأغلبهن باحثات عن مغامرة. خرجت من اللقاء بانطباع أن الرجل لم يتعب على حاله بعد أن قرر الخروج مع امرأه بمواصفات معينة. لم يرتد ما يليق بعمره، لم يستعد بموضوعات للحديث، لم يلتزم مراسم التعامل الاجتماعى فى حضور نساء.
***
وهذه حكاية من صديقة أخرى. حكت أنها تزوجت صغيرة.. تزوجت عن حب من رجل يحمل مؤهلات «سى السيد». كان طموحا وناجحا وشهما. لم أشعر بالخوف يوما وأنا معه. كم تفاخرت به أمام شقيقاتى وزميلاتى أمد إليهم عند حاجتهن شهامته وحمايته. فى البداية كان زوجى «مشروع سى السيد» وبفضلى صار «سى السيد صغيرا» ومع الأيام أصبح «سى السيد كبيرا» بحجم الحارة ثم بحجم الحى. لاحظت أنه مع كل انتقال من درجة إلى أخرى كان اهتمامه بالنساء يزداد. تصورت أنه من نفوذه وشخصيته ووقاره يحصل على الانبهار والملاحقة ومن الشعبية والإعجاب تتضاعف طاقته وقوته وتتراجع مكانة اهل بيته. تحملت سى السيد عقدا من الزمن وتطلقنا ثم تحملته عقدا آخر وتطلقنا. أنا الآن أعود اليه. أشفق على رجل كان «سيد الرجال» فى زمانه وانحطت أحواله. أنهكته المخدرات وأهلكه الشراب. صار عليلا ومنكسرا. صار، وهو التطور الفتاك، صار عالة على نسائه. لم تعد سمعة سى السيد تكفى لتلبية حاجاته ورغباته. رأيته على هذه الحال فاستعدته على أمل أن أعيده رجلا كما بدأ. خاننى التوفيق. الرجل إذا سلك طريق العوز والضعف والاتكال على غيره فقد رصيدا هاما من «رجولته» كما عرفها وعرفها من كانوا حوله. أعدته ليعيش فى أحضانى ولو شبح رجل، ولكنه عاد، وهو فى منتصف العمر، عجوزا يلهث وراء النساء ويستجدى ثمن ما يطفئ به جذوة إدمان أو يشبع رغبة لا ترحم.
***
أغلبنا فقد الأمل. نشعر كما لو أن إعصارا هب فأطاح بعديد القيم. لنا معركة مع الرجال لم نطلق شرارتها بعد. بييننا من تدعو لانتهاز فرصة ضعفه لنفرض التسوية التى نحلم بها. وبيننا من تحذر من طباع خيانة وسلطة مستبدة لن تدع المرأة تحصل على ما حرمت منه منذ البداية، ما هى إلا نكسة يعود منها الرجل أشد تسلطا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved