تَمَــــــرُّد

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 20 أغسطس 2021 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

على مقعد معدنيّ أبيض اللون له وسادتان زرقاوان بلون البحر، جلست سيدةٌ متأنقة، ترتدي نظارة تحجب عن نصف وجهها الشمسَ وتخفي عن المحيطين عينيها.
معها صاحبتان في العمر نفسه تقريبًا ما بين أوائل الخمسينيات ومنتصفها، منهن مَن ارتدت حجابًا ومَن جعلت شعرها منسابًا تموج خصلاته بألوان على أحدث صيحة. فضلًا عن سنوات العمر المتقاربة؛ كان القاسم المشترك بينهن سيجارة. سيجارة رشيقة القوام، تطل من بين الأصابع في ثقة وتحدٍ؛ تكمل اللقطة وتضفي على المشهد طابعًا خاصًا.
•••
الصوتُ عال والضحكاتُ كثيرة، لا أدري لما حزرتها مُفتعلةً أو مُبالَغ فيها، أما ما يلفت النظر في مجلسهن حقًا؛ فأسلوب التدخين. كان واضحًا أن أيهن لا تدخّن باحتراف، عصارةُ السيجارة لا تجد طريقها إلى حنايا الصدر مطلقًا، لا تطوف بحويصلات الرئة ولا تتبادل معها جزيئات الكربون والأكسجين. لا يتجاوز الدخانُ في رحلته القصيرة تجويفَ الفم الذي يستوعبه لحظةِ شهيقٍ ضَحل، فيدخره جزءًا من الثانية، قبل أن يعيده كما هو إلى الهواء؛ بلا تغير أو نقصان.
•••
إحداهن كانت ترفع ذراعها مُمسِكَة بالسيجارة، لا تدنيها من وجهها طيلة الجلسة، بل تلوح بها وكأنها تريد أن يراها الجميع. بعد قليل ذبلت السيجارة شوقًا لأنفاس تحرقها، فأعادت السيدة إشعالها ونبذتها من جديد، ثم تناولت الرشفة الأخيرة من كوب العصير المستقر أمامها، وأدامت النظر فيه ثم في السيجارة التي قصرت، ولم تلبث أن أشارت بها للنادل وطلبت فنجانًا من القهوة.
•••
عادة ما يصحب التمرد فتراتٍ عمرية بعينها؛ يستهدف إثبات الوجود وبلورة الإحساس بالذات وإرساء الحدود. في سنوات المراهقة يولد التمرد كضرورة؛ حال لازمة بحكم التعريف، أما في منتصف العمر وما يليه فيعكس خبايا عميقة، جديرة بالتأمل والتفكير؛ وكذلك بالاحترام.
•••
نساء كثيرات في مجتمعات ذات طبيعة محافظة ينتبهن فجأة إلى أنهن لم يحظين بميزة التمرد في وقتها المتعارف عليه؛ بعضهن يسترددن هذا الحق في مراحل لاحقة؛ حين تكون الظروف مناسبة للفعل، يفتحن بابًا لاستدراك ما فات ويحاولن تعويض الفقد. عوامل عديدة تسهم في نجاح المحاولة، منها تعميم القهر بغير استثناء، والمساواة في القمع، ولا شك أن الضغوط الساحقة؛ قد تدفع المرء لإتيان أكثر الأفعال عنفًا وغرابة. في قائمة المعارف والأقرباء والصديقات مَن رحن يجاهرن بما لم يكن في استطاعتهن الجهر به على مدار أعوام، أدركن أن الدعة والاستسلام لم يعطياهن الراحة والسكينة ومن قبلهما الرضاء. رحن يخلقن فرص الرفض ومناسباته ويواجهن بها الآخرين، وكلما استقبلن رد فعل كاره أو نقد عنيف، ازددن إشباعًا وإصرارًا.
•••
تشير مفردة التمرد في المعاجم اللغوية إلى صورة من صور العصيان، و"تمرد عليه" أي؛ عصاه وعانده، متمسكًا بموقفه مجاوزًا الحد. من ناحية أخرى؛ يعرف التمرد في علم الاجتماع بأنه الخروج على أعراف المجتمع والنظام العام. من الناس من يتمرد على عادة تأسره وتكسر إرادته، ومن يتمرد على خصال شخصية أصيلة عصية على المحو والتعديل، ومَن لا يعرف معنى للتمرد منذ نعومة أظفاره ولا يجرؤ على اختباره.
•••
يطلق التمرد على فعل احتجاجي في مكنونه؛ لكنه يختلف في المعجم السياسي عن أفعال احتجاجية أخرى مثل الثورة. مفهوم التمرد أقل نصوعًا في الأذهان؛ فهو قابل للإدانة، ربما لما قد يحمله من دوافع ضيقة الأفق تستجلب الرفض والإنكار، أما الثورة فجوهر مصهور بروح وقودها الظلم والطغيان؛ شرعيتها راسخة ودوافعها في العادة ناضجة وافرة. التمرد عمل محدود النطاق والأثر يأتي به فرد أو تصنعه جماعة، بينما الثورة يقوم بها شعب؛ ولا تنسب لسواه في أي حال.
•••
على كل حال؛ قد يتمرد الفرد على المجتمع فيخرق قواعده ويلقي بها أرضًا غير عابئ بحرب ضروس تحل على رأسه، كذلك قد يتمرد المجتمع على نفسه، فيصوغ لحاضره قواعد جديدة تزيح القديمة وتبدل الأحكام.
•••
لم تكن النساء الثلاث بغافلات عن أعين ترصدهن؛ تراقبهن وتتمنى لو فضت أسرارهن، وأظن أن كل واحدة فيهن تمنت بدورها لو تصرخ من مقعدها بما في الجعبة من حمول، وما في القلب من تطلعات ورغبات؛ تراكمت دون أن تتحقق، لكنها لم تذو بمرور الأيام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved