سُخط

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 20 سبتمبر 2019 - 11:15 م بتوقيت القاهرة

في الموروث الشعبيّ الأصيل؛ قد تدعو امرأة على رجل أصابها بالغمِّ والنكد، تستنزل به اللعناتَ وتقول: إلهي يسخطك قرد. القرد في ثقافتنا عنوان لقبح الهيئة وللسلوك المستهجن؛ رغم ما يحظى به من تقدير في ثقافات أخرى مغايرة، والمراد بالسخط أن يتدنى شأن المدعو عليه تدنيًا ملحوظًا، أما الرغبة في تدخُّل الذات الإلهية لصالح المرأة المكروبة؛ فإعراب عن صعوبة تجسيد دعوتها، واستحالة تحقيقها بالطرق البشرية المعتادة.
***
يُطلَق على القطع الأثرية والتماثيل الفرعونية مُسمَّى "المساخيط"، يُنقّب الطامعون عنها بشتى الوسائل ويستخدمون ما عَنَّ لهم مِن أدوات، وفي سبيل العثور عليها تقع جرائم وحشية الطابع، حماسية البدايات، دموية النهايات؛ فالمَسخوط الواحد يساوي ثروةً، والثروةُ التي تأتي عن طريق الشعوذة، وتخاطب شهوة الغنى السريع وتلاعب المُخيلةَ الواسعة، لها بريقٌ خاص يدفع الناسَ لأبشع الأفعال، أما عن مبررات التسمية؛ فربما الهيئة التي تتخذها كل منحوتة والتي تختلف كثيرًا عن هيئاتنا الحالية.
***
يتبدى التقليل من شأن الشخص وتحقيره، حين يناديه آخر: "يا مَسخوط". ليس هذا النداء بمألوف في الحوارات اليومية، لكنه ظهر في الدراما مرات كثيرة. أحيانًا ما يأتي بهدف المزاح ليس إلا، وفي أحيان أخرى يصبح أداةً للسخرية المُهينة؛ فالمَسخوط في عرف الناس، ورغم ما له من قيمة أثرية ومادية، ليس سويًا مثلهم؛ فيه علَّه من العِلَل، ونقيصة من نقائص العقل أو الجسد، وعلى كل حال لا تقارن هذه وتلك بنقائص شاعت في الضمائر وانتشرت.
***
إذا ارتدى المرءُ ما لا يناسب عمره، وما يجعله يبدو أصغر مِن سنه وأصبى؛ تساءل الناسُ عما سَخَطه وجعله أضحوكة. يعرض فيلم "صغيرة على الحب" الذي أدت فيه سعاد حسني دور البطولة؛ شخصية امرأة ناضجة، نعتها خطيبها المنتظر بالمَسخوطة لما عقصت شعرها كالطفلة، ولبست ثوبًا واسعًا قصيرًا، وراحت تقلد في كلامها ومشيتها الصغار. عدها كثير المشاهدين في الدورين جميلة؛ صبية وشابة، ولم يكن النعت بأي حال عنوانًا للإهانة أو التنفير.
***
السُخط في مَعاجِم اللغة العربية خلافُ الرضا، والساخط هو الغاضب، وأَسْخَطَني فلان أي أغضبني. إذا سخِط المرءُ شيئًا فقد كرهه، وإذا قيل سخِط فلانٌ على فلان فالمعنى أنه صار كارهًا له ناقمًا عليه. الفاعلُ ساخِطٌ والمَفعول مَسخوط وكلاهما في سوء. لا يرضى الساخطُ عن الحال بوجه عام، وفي الوقت ذاته لا يستطيع تغييرها. عجزه مبعث إحباط متزايد، وغضب مُتصاعِد، وكلاهما لا يجد في العادة منفذًا للخروج. يغدو الساخط آنيةً مُحكَمَة الإغلاق؛ يتكثَّف البخار داخلها إلى أن يصل حدَّ الانفجار.
***
يقول صَفِيِّ الدينِ الحِلِّي: فـكم سخِطَ الأنامُ وأنتَ راضٍ ... وكم رَخُصَ المِلاحُ وأنتَ غال. القصد مِن التقابل والتضاد مدحٌ أكيد، وثناءٌ على الطبائعِ والخصال؛ فالساخطُ أمام الراضي، والرخيصُ مقابل الغالي، كفَّة تجُّب الأخرى، وتفوقها في ميزان المَحاسن والمُمَيزات.
***
يحمل السُخطُ في باطنه آيات الاستياء والتذمر؛ هو أقوى مِن الضيق، وأعمّ مِن الإحباط، وأعمق مِن الغضب السطحيّ العابر. السُخطُ ضيفٌ مُقيم، لا يبرح القلوبَ بل يترعرع فيها ويُثقِلها، وأكم مِن ساخط وساخطة تزدحم بهم طُرقات المدينة المُغبرة وأروقتها، وأكم مِن غاضبٍ وحانقٍ وحانقة؛ يبيتون أيامهم في كمدٍ عظيم، لا تطيبه الأمنيات البعيدة.
***
يشدو النقشبندي مُبتهلًا في رائعته "مولاي" التي لحنها العبقريّ بليغ حمدي، واستمع إليها في انبهار ملايين الناس: "تحلو مرارةُ عيشٍ في رضاك، وما أطيقُ سُخطًا على عيشٍ مِن الرغد". يكتسب السُخطُ في هذه الكلمات بُعدًا كليًا مُخيفًا، إذ يرتبط بقوة كبرى شاملة؛ إذا رضيت جعلت المُر مُستطابًا جميلًا، وإذا سَخِطت وغَضبت أحالت اليُسرَ علقمًا وجحيمًا.
***

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved