فلسطين.. التاريخ والرمز

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 20 سبتمبر 2020 - 6:50 م بتوقيت القاهرة

تزامن بروز القوميّات وقيام الدول على أساس هويّة قوميّة فى نهاية القرن التاسع عشر، ونشوء ما يُطلق عليه توصيف «النهضة العربيّة» مع ظهور مطالبة بعض يهود أوروبا الشرقيّة بأرضٍ لهم. ومنذ ذلك الحين اصطدمت «الهويّة العربيّة» بالهويّة الصهيونيّة ــ الإسرائيليّة، خاصّة وأنّ الأولى كانت تطمح أساسا إلى ما يجمَع، عبر لغةٍ واحدة، شعوبا متعدّدة الأديان والمذاهب والأخرى بينما قامت الأخرى على أساس صهر الهويّة القوميّة فى الدين اليهوديّ.
لم يكُن مسار تلك الهويّات الناشئة مكتوبا مسبقا. إلاّ أنّ الحركة الصهيونيّة نجحت فى بناء وطن قوميّ وتحصينه فى فلسطين. وكان للمحرقة اليهوديّة التى ارتكبتها النازيّة دور رئيس فى جذب أغلب يهود العالم لدعم ذلك المشروع الذى لاقى أيضا الدعم الدوليّ الواسع، رغم كلّ الجرائم الإنسانيّة التى ارتكبت بحقّ ساكنى الأرض، أى الفلسطينيين، ورغم أنّ دوافع الدول الخارجيّة المعنيّة ارتبطت بالاستعمار أكثر ممّا ارتبطت بالنزعة الإنسانيّة حيال اليهود. هكذا منحت فرنسا وبريطانيا، إبّان العدوان الثلاثى فى 1956، السلاح النوويّ للدولة الناشئة لتأمين مستقبلها مهما حدث.
***
بالمقابل كان المشروع العربيّ أكثر ارتباكا. فقد برز بدايةً كردّ فعلٍ على القوميّة التركيّة التى سبقته وهيمنت على الإمبراطوريّة العثمانيّة وحوّلتها إلى دولة تركيّة. واستمرّت العروبة بالتأرجح دوما بين الهويّة الإسلاميّة وبين العروبة ذات المضمون القبليّ. كذلك لم تأخذ العروبة المعنى ذاته فى جميع البلدان العربيّة. فعروبة مصر والمغرب العربى لم تنهض حقّا إلاّ مع عبدالناصر وبالتزامن مع نضالات التحرّر من الاستعمار. بينما عروبة الجزيرة العربيّة تجذّرت إسلاميّا، بالتحديد سنيّا وقبليّا. أمّا بلاد الشام والعراق، فقد شهدت مع مؤتمر إنشاء الدولة العربيّة الأولى ودستورها فى دمشق بزوغ مشروع تأسّس أكثر على المواطنة العابرة للطوائف والأديان. مشروعٌ شارك فى صياغته، وبزخمٍ كبير، أبناء فلسطين ولبنان، بمن فيهم شيعة جبل عامل ويهود كلّ بلاد الشام. ولكن «الغرب سطا» عبر الانتداب والتقسيم ووعد بلفور على هذا المشروع الديموقراطيّ.
ثمّ شكّلت فلسطين، انطلاقا من ثورة 1936 وقرارات الأمم المتحدة بالتقسيم وحرب «النكبة» فى 1948، رمزا للصراع بين العروبة والصهيونيّة كجزءٍ من النضال ضدّ الاستعمار، وأبعد من ذلك رمزا للصراع بين مفاهيم العروبة والمواطنة المختلفة وحتّى بين الدول التى تحملها. إلاّ أنّ المشروع العروبيّ لاقى هزيمةً حقيقةً فى «نكسة» يونيو 1967 ولم تحتلّ الدولة الصهيونيّة عندها كلّ أراضى فلسطين التاريخيّة فحسب، بل أيضا سيناء المصريّة والجولان السوريّ.
ومنذ إذن أضحت القضيّة تخصّ حصريّا شعب فلسطين وحقوقه وتمّ فصلها عن قضايا الأراضى المصريّة والسوريّة ثمّ اللبنانيّة المحتلّة. ولم تعُد بالتالى حقّا قضيّة المشروع العربيّ ولا حتّى قضيّة الإسلام، وإن زايد البعض على ذلك.
استرجعت مصر، كما هو معروف، سيناء. ولكن لم يبقَ من تمسّكها بالعروبة سوى اسمها. وبلغ ثراء الخليج سقوفا عالية بعد الطفرة النفطيّة فى 1973 وأضحَت قضيّته هى موقعه فى العالم المعولم وصراعه مع ضفّة الخليج الأخرى (تحت صيغة مجلس التعاون الخليجي) وقضيّة إسلامه «السنيّ الحنيف» حتّى أقاصى آسيا. أمّا دول بلاد الشام والعراق فقد غرقت فى مشاريع أوطانٍ تراها لعبة الأمم مستحيلة أو ممنوعة.
هكذا دُفِعَ العراق إلى حربٍ مدمّرة مع إيران آلت إلى غزوٍ أمريكيّ ودولةٍ هشّة مقسّمة بين العرب السنّة والشيعة والكرد. وأُدخلَ لبنان إلى حربٍ أهليّة لم يكن الخروج منها سوى تأسيس لأزمةٍ كيانيّة واجتماعيّة ــ اقتصاديّة أكبر نشهد اليوم انفجارها. ثمّ تمّ جرف سوريا بعدها إلى حربٍ أهليّة عرفت أرضها كلّ «جهاديّي» الدنيا، سنّةً وشيعة، وبقصد تدميرها هى أيضا. فى هذه الدول الثلاث، ليست العروبة هى التى وضعت على المحكّ بل وجود شعبٍ عراقيّ أو شعب لبنانيّ أو شعب سوريّ. وحده الأردن عُزِلَ وجُمِّد رغم أنّ استمراره رهنٌ بالمعونات فى حين لم يتمّ حسم هويّته بين هويّات ثلاث.
بعد النكسة، ناضل الفلسطينيون بالسلاح فى أفق قيام دولة مواطنة واحدة على الأرض تضمّ اليهود. لكنّ مشروع «التحرير» اصطدم واقعيّا بمنطق الدول القائمة وهدف الحفاظ على وجودها. هكذا أجبرهم تعثّر نضالاتهم على التخلّى عن حلّ التحرير وتبنّى حلّ الدولتين بالطرق السلميّة. وذلك فى الوقت ذاته الذى شدّدت فيه الصهيونيّة على البعد اليهودى الدينيّ لدولتها العبريّة رغم استمرار صمود كثيرٍ من عرب 1948 على أرضهم. وعمدت إسرائيل لزيادة المستوطنات لجعل حلّ الدولتين شبه مستحيلٍ عمليّا. فى مثل ذلك السياق جرى توقيع اتفاقيّة «أوسلو» كى تتواجد «سلطة» فلسطينيّة على الأرض بشكلٍ رمزيّ. سلطة مقسّمة تدير «مناطق أبارتايد» ولا تملك حقّا سيادتها وقرارها. هكذا عسى أن يفقد الفلسطينيّون، مع مرور السنين، هويّاتهم كشعب، مثل نظرائهم فى العراق ولبنان وسوريا، ثمّ يتفرّقوا رويدا رويدا فى مختلف أصقاع المعمورة.
***
فى ظلّ ذلك المسار، باتت جميع الدول العربيّة تتاجر بل وتتعاون مع إسرائيل، خفيةً أو جِهارا. ولم تعُد فلسطين «قضيّة العرب» بل أضحت موضوعا للمزايدات الإعلاميّة دون موقفٍ حقيقيّ. مزايداتٌ عربيّة ــ عربيّة وكذلك مع الدول الإسلاميّة كإيران وتركيا. ووصولا إلى استخدام بعض هذه الدول لفلسطينيين بارزين بغية فرض «القوّة الناعمة» ــ لم تكن دوما ناعمة ــ على دولٍ عربيّة أخرى.
ثمّ تأتى أمريكا ترامب وتطلق «صفقة العصر» دون أفقِ حقيقيّ لشعب فلسطين على أرضه، بل وحتّى ضياع ما تمّ تحصيله فى أوسلو. وحلّ بعد ذلك تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودولٍ عربيّة، أوّلها، فقط أوّلها، دول الخليج. وذلك عبر ضغوطٍ كبيرة تُنهى أسطورة أنّ الولايات المتحدة.. قد «انسحبت» من المنطقة. وتحت حججٍ جيوستراتيجيّة تقضى بضرورة محاصرة إيران «الشيعيّة» أو كبح جماح تركيا «العثمانيّة». وذلك فى تنازلٍ لا معنى للمطبّعين بعده أن يطالبوا لا بحقوق الفلسطينيين على أرضهم وفيها ولا بالمساواة بين من يعيشون على هذه الأرض، ولا بالطبع بانتهاء احتلال الجولان.
والسؤال الكبير هو كيف ستبقى منظومات الدول العربيّة.. عربيّةً بعد هذا؟ بمعنى مشروع الهويّة المشتركة أو بمعنى الديمقراطيّة والمواطنة العابرة للطوائف والأديان. إنّ وجود لبنان دولة وشعبا نقيضٌ لدولٍ هويّتها فقط دينيّة قوميّة. وكذلك بالنسبة لسوريا والعراق.
لا حلول سهلة للمأزق الوجودى الذى أُخذت إليه بلدان المشرق العربيّ الثلاث، والحلول أكثر صعوبة بالنسبة للفلسطينيين. هؤلاء تمّت شرذمتهم بين الـ48 والضفّة وغزّة مع قوى سياسيّة متنافرة بقدر التنافر السنيّ ــ الشيعيّ الذى يشكّل عنوان المرحلة. وخيارات النضالات المستقبليّة أمامهم ليست سهلة بين حلّ الدولتين والعودة إلى الدولة الواحدة.
فى الواقع يُمكن رمى اللوم على قيادات هذه الدول والقيادات الفلسطينيّة. إلاّ أنّ فشل هذه القيادات وعجزها عن تحقيق طموحات شعوبها ليس وحده السبب. إنّه زمنٌ آخر، زمن الخليج وثرواته وطموحاته الإقليميّة والتنافس بين دوله الداخليّة وعروبته «الخاصّة به».
ولكن هل بمقدور عرب الخليج حماية بلادهم وشعوبهم من الأطماع بعد التخلّى عمّن اختار هذه العروبة اختيارا حرّا وتركهم يغرقون فى متاهات الانهيار والتشرذم والإحباط والاحتلال؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved