التعليم في زمن ما بعد كورونا

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الثلاثاء 20 سبتمبر 2022 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب خالد صلاح حنفى بتاريخ 19 سبتمبر تناول فيه تأثير جائحة كورونا على العملية التعليمية، ودعا إلى استغلال تجربة التعليم عن بعد التى عاصرناها فى إجراء تطوير شامل للمنظومة التعليمية يتناسب مع متطلبات المستقبل... نعرض من المقال ما يلى:

شهدت أنظمة التعليم فى العالَم فى العام الماضى اضْطرابا غير مسبوق بفعل جائحة كورونا، فأغلقت مُعظم مَدارِس العالَم وجامعاته أبوابها أمام أكثر من 1.5 مليار دارِس، أى ما يزيد على 90% من إجمالى الدّارسين، وذلك بحسب إحصاءات منظّمة اليونسكو. ويرى خبراء التعليم أنّ التعليم ما بعد كورونا لن يكون كما كان قبله، ولاسيّما مع استخدام مُعطيات الثورة الصناعيّة الرّابعة، وأنظمة الذكاء الاصطناعى، وأنّ ثمَّة تحوُّلات متوقَّعة كبيرة وهيكليّة فى أنماط التعليم وأساليبه وسياساته، ونُظمه، وقد بدأت بوادر هذه التحوّلات بالظهور فعلا.

يرى الكثير من الخبراء والباحثين أنّه عندما تتراجع شِدة الجائحة، وتبدأ الدول فى فتْح مَدارسها أمام الطلّاب ــ وسيكون ذلك غالبا على مراحل – فإنّ ثمَّة تحوُّلات مُهمَّة سوف تطرأ، بدرجاتٍ متفاوتة وفقا للإمكانات الماديّة والخطط التى تعتمدها كلّ دولة، وسيشهد قطاع التعليم الأساسى أوضاعا جديدة فى كثير من دول العالَم من بينها:

 

 1ــ التباعُد الاجتماعى: سيكون الولوج إلى الفصول الدراسيّة مُتدرِّجا، وسيُراعى على نحوٍ مدروس قواعد التباعُد الاجتماعى؛ فلا مُصافحات ولا تقارب جسديًّا، وستبقى كثير من الأنشطة الاجتماعيّة مُعلَّقة.

2ــ تعدُّد فترات الدوام داخل المدرسة الواحدة: فَرَضَ التباعُد الاجتماعى بين الطلّاب عددا أقلّ منهم داخل الفصل. وصار من الضرورى أن تعمل المؤسّسات التعليميّة على فترتَين، وربّما على ثلاث كلّ يوم، بخاصّة فى المَدارس المُكتظَّة بالطلّاب، ما يراكم مزيدا من الضغوط على أعضاء هيئة التدريس والطاقم الإدارى.

3ــ تراجُع الإقبال على الدراسة فى الخارج: تأثَّرت كُلّ أشكال التعليم الدولى بالجائحة، وسيستمرّ ذلك لبعض الوقت على الأقلّ، ويمتدّ هذا التأثير إلى خطط الدراسة فى الخارج وبَرامج التدريب وتبادُل الخبرات.

4ــ اكتساب المُتعلّمين مهارات جديدة: نتيجة فترة الحَجْر المنزلى، صار الطلّاب على دراية أكبر بأدوات تكنولوجيا التعليم ووسائله، مع تمتّعهم بالقدرة الكافية على التحكُّم فى تعلُّمهم، كما اكتسبوا الخبرات فى عديد من التطبيقات الجديدة المُتاحة، التى يُمكنهم استخدامها للدراسة والتعلُّم.

5ــ إعادة تعريف دَور المُعلِّم: سيتغيَّر مفهوم دَور المُعلِّم باعتباره صاحب المعرفة الذى يُضفى الحِكمة على طلّابه، بخاصّة مع توسُّع دوائر ولوج الطلّاب إلى المَوارد المعرفيّة عبر نُظم التعليم الرقمى التى يتقلَّص فيها دَور المعلِّم التقليدى.

6ــ تقليل الاعتماد على الكُتب المدرسيّة الورقيّة: يحمل التلميذ فى المُتوسِّط عند ذهابه إلى المدرسة فى مدرسة هنديّة على سبيل المثال، ما بين ثلاثة إلى ثمانية كيلوجرامات من الوزن كلّ يوم. وعادةً ما يحمل إلى جانب الكُتب الدراسيّة والمُفكِّرات، صندوق غذاء، وزجاجة ماء. إلّا أنّ استخدام التكنولوجيا سيُساعد على التخلُّص من بعض هذا الوزن، حيث ستَعتمَد الواجبات المدرسيّة بشكلٍ مُتزايد على الشبكة الرقميّة.

7ــ تحوّلات فى المَناهج الدراسيّة: وهذه التحوّلات سوف تفرض نفسها، لتواكِب واقع ما بعد الجائحة، بخاصّة مع ظهور برامج تعليميّة جديدة، تتبنَّى الاستراتيجيّات الذكيّة فى بناء المُحتويات التعليميّة، عبر استخدام أحدث التطبيقات، التى تُطوِّرها الشركات وكُبرى المؤسّسات فى قطاع التعليم. 

8ــ تغيّرات فى نُظم تقييم الطلبة: إنّ مُعطيات ثورة التقنيّة الحديثة، ستُساعد المُعلِّمين على التعامُل مع التقييم، وتتبُّع أداء كلّ طالب ووضْع الدرجات على نحوٍ عادل، ما سيُتيح للمُعلّمين مزيدا من الوقت والجهد للتركيز على تحسين الدورة التعليميّة وجودة التدريس وتطوير الكفاءة.

 

التجارب العالَميّة والعربيّة لإعادة فتْح المدارس

تنوَّعت جهود الدول فى إعادة فتْح مدارس التعليم الأساسى عقب انحسار الجائحة، فقد قرَّرت الحكومة الدانماركيّة مثلا، فتْح المدارس الابتدائيّة أمام التلاميذ مُنذ شهر مايو 2020 ووَضعت نظاما جديدا للدوام الدراسى، يقوم على قواعد رئيسة، أبرزها:

 ــ تقسيم التلاميذ إلى مجموعات صغيرة، فلا يزيد عددهم فى كُلّ مجموعة على (12) تلميذا، وهو العدد المُناسب لمساحة حُجرة الدراسة، فى إطار قواعد التباعُد الاجتماعى، بحيث يقضى التلاميذ وقتهم فى المدرسة، فى ما يُشبه الشرانق الافتراضيّة من دون أن يكونوا عرضة للآخرين.

ــ دخول المجموعات الصغيرة من التلاميذ إلى المدارس فى أوقات مُختلفة من الصباح، وتناولهم الغداء مُنفصلين، بحيث لا يُفارقون المناطق المُحدَّدة لمجموعتهم، فيما تتلقَّى كلّ مجموعة دروسها على يد معلّم واحد.

ــ تطبيق بعض المَدارس، التى ليس لديها فصول كافية نظام الفترتَين (فترة صباحيّة، وفترة بعد الظهر).

ــالاهتمام الشديد بالنظافة وتخصيص فُسحة من الوقت، كُلّ فترة، من أجل غسل الأيدى مع حِفظ المسافات بين التلاميذ، فى مجموعات مُنعزِلة.

ــ قيام المُعلِّم الذى يُعانى هو أو أحد أفراد أسرته من مُشكلة صحيّة، بالتدريس باستخدام الإنترنت من المنزل.

وقد أدّت جائحة كورونا فى العالَم العربى مع بداية مارس 2020 إلى إغلاق المدارس والجامعات، وتعليق الدروس حضوريّا، ونتج عن ذلك انقطاع حوالى 86 مليون متعلّم عربى عن الدراسة. وإزاء هذا الواقع، وَجدت الدول العربيّة نفسها أمام خيارَين لا ثالث لهما، إمّا التعليم عن بُعد، أو لا تعليم؛ فكانت النتيجة، توجُّه الدول العربيّة نحو التعليم عن بُعد، وتنوّعت التقنيّات والوسائل المُعتمدة من وزارات التربية لضمان استمرار عمليّة التعليم التى تمّ تعليقها حضوريّا، وتمّ الدمْج بين مختلف أشكال التعليم من خلال منصّات وتطبيقات إلكترونيّة كالتيمز والبلاكبورد وسكايب والزوم ومودل وأدمودو وفصول جوجل الإلكترونيّة، فضلا عن استخدام البثّ التلفزيونى والإذاعى. كما شكّلت وسائل التواصل الاجتماعى (الفيسبوك، والواتس أب، والتليجرام) مساحة واسعة من الوسائل التى تمّ اعتمادها فى العمليّة التعليميّة، وأبقت بعض الدول على تقديم الموادّ والمحتوى التعليميّ بشكل ورقىّ، خصوصا للمتعلّمين الذين يعانون من مشكلات تقنيّة.

وأطلقت المَملكة العربيّة السعوديّة قنوات «عَين» للدروس التعليميّة لتُواكب ما فرضه الواقع من تحدّيات، ودُشِّنت منصّة التعليم التفاعلى «منصّة مدرستي»، التى تتضمَّن منذ انطلاقتها الأولى أكثر من 45 ألف محتوى تعليمى متنوِّع، وأكثر من 450 ألف خطّة درسٍ إلكترونى بمُشاركة المُعلّمين، وتمثّل هذه المنصّة التفاعليّة مُحاكاةً افتراضيّة للواقع التعليمى، حيث يبدأ اليوم الدراسى لتلاميذ المرحلة الابتدائيّة فى الساعة الثالثة عصرا، ولطَلبة المرحلتَين المتوسِّطة والثانويّة فى تمام الساعة التاسعة صباحا. وعقب تسجيل الدخول، يؤدَّى النشيد الوطنى، ثمّ تمارين رياضيّة، بعد ذلك يُعرَض الجدول الدراسى، ويبدأ الاستماع لشرْح الدرس المُجدوَل، وأداء المهامّ والتكليفات المُقدَّمة من المُعلِّم.

واستَحدَثت وزارة التربية إدارة عامّة للتعليم الإلكترونى، لتكون المظلَّة الرسميّة لمنظومة التعليم الإلكترونى الموحَّد الذى يستفيد منه المعلِّم، وينمو دوره فى التوجيه والإشراف على تعلُّم الطلّاب، ويشارك الطالب بفاعليّة أكبر مُعتمدا على ذاته فى الحصول على المعلومات، وتنمية مواهبه، مُستفيدا من الأنشطة التعليميّة المُختلفة. ويُتاح لوليّ الأمر المُتابعة بشكلٍ مستمرّ للمُستوى الدراسى لابنه، ويُصبح مؤثِّرا فى رسْم خارطة جودة التعليم، من خلال مشاركاته فى الاستبيانات والنقاشات، فالتغذية الراجعة من الآباء والأمّهات يُعتَدّ بها لتحسين الأداء والجودة.

 

 

التعليم عن بُعد خيار الحاضر والمستقبل

 

اضطرّت دول العالَم لتبنّى نُظم التعليم عن بُعد، والتعلُّم الهجين أو المُدمج كنتيجة لغلْق المَدارس والجامعات كليّا أو جزئيّا لضمان استمرار العمليّة التعليميّة. وأوضحَ تقريرُ الرابطة الأوروبيّة للتعليم الإلكترونى EADTU حول مُستقبل التعليم فى أوروبا وجود زيادة كبيرة فى عدد المؤسّسات التعليميّة التى اعتمدت على نموذج التعليم المُدمج بجميع مراحل التعليم؛ ويرجع ذلك إلى فاعليّة هذا النموذج فى رفع مُستوى مهارات الطلّاب أو المُعلِّمين، وقدرته على مُواجَهة الأعداد المُتزايدة للطلبة، كما أنّه يزيد مُستوى جودة العمليّة التعليميّة. وقد أكَّدت اليونسكو أهميّة التعليم المُدمج، باعتباره نَهجا يُعزِّز التعلُّم، ويدفع نحو تحقيق الهدف الرّابع من أهداف التنمية المُستدامة الوارد فى التقرير الأممى المعروف باسم Education 2030.

ختاما، لا بدّ من القول إنّ الظروف الرّاهنة أَثبتت بما لا يَدع مجالا للشكّ أنّ التعلُّم عن بُعد هو السبيل الوحيد أمام النُّظم التعليميّة فى ظلّ استمراريّة جائحة كورونا، وما تفرضه طبيعة العصر من ثقافة رقميّة يلزم كلّ إنسان معرفة مفرداتها والتعامُل معها، لكونها الحاضر والمستقبل. لذلك فعلى واضعى السياسات ومُخطّطيها تبنّى التعلُّم عن بُعد، وتوفير متطلّباته، واستثمار التجربة الراهنة ونتائجها فى إجراء تطويرٍ شامل للتعليم ومُدخلاته وعمليّاته ومُخرجاته، وذلك حتّى تتحوّل مِحنة كورونا إلى منحة، وحتّى تُسهم كورونا فى التحوُّل نحو الانتفاع بالتعلُّم عن بُعد.

 

النص الأصلي 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved