عناويـــــن راقصة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 20 أكتوبر 2017 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

في الصفحة الأولى مِن الجريدة وردَ العنوانُ التالي: ”إسرائيل تكافئ جنديًا قتل فلسطينيًا جريحًا“. مِن الطبيعيّ أن يستفزّ العنوانُ قارئًا عربيًا لا يزال -رغم الانبطاح العام - يعد إسرائيلَ عدوًا وفلسطينَ أرضًا مُحتلة وأبناءَها مقاومين.
يُفهَم مِن العنوان دون لبس أو شكّ أنّ ثمّة عملا غير أخلاقيّ قد وقع هو ”قتل جريح“، وأن مَن ارتكبه مُجند في جيش العدو ”جيش إسرائيل“، وأن رؤساءه عدوه بطلا يستحق بعمله هذا ”المكافأة“.
مَن يترك العنوان ليستكمل الخبر سيفاجأ حتمًا، فالمتن يقول إن الجندي حُوكِم، ونال عقوبة السجن، وتم تسريحه مِن الخدمة، وأن مكافأة التسريح خُفِّضَت بمقدار النصف لأنه لم يكمل مدته في الجيش. هناك إذًا ”مكافأة“ هي التي تم استخدامها في العنوان، لكنها انتُزِعَت مِن السياق فأدت إلى تضليل القارئ الذي لن يستأنف في الأغلب القراءة، مكتفيًا بالغضب والضيق إزاء العمل المشين، أو ربما زارته مشاعر الهوان إذا كان في النفس مُتسعٌ.
***
العنوان في وادٍ والمضمون في وادٍ آخر، والأمثلة الدالة على تلاعب العناوين بالقراء لا يمكن حصرها، وإذا كان كثير القراء والكتاب والغالبية العظمى مِن الناس العاديين، قد لا يستنكفون تضليلا يتعلق بما يرتكب مُحتل له تاريخ إجرامي مُمتَد ومُتواصل، فالعناوين المُضلِّلة المُتعلِّقة بالسياسة الداخلية وبالأخبار العادية مُترعرعة مُزدهرة، يَشقُّ على العقل التسامُح معها؛ أحيانًا ما تكون مُتعمَّدة مَقصودة وأحيانًا ما تصدر عن جهلٍ وحمقٍ أصيلين.
قد لا يخرج الهدف من انتقاء عنوانٍ بعيد الصلة بالمتن عن محاولة بريئة ومباشرة لجذب العين، ودفع القارئ لشراء المجلة أو الجريدة، لكن الغرض يتجلّى مُلتويًا وخبيثًا في عديد المرات، إذ تتوفر نيةُ العبث بوعي القارئ، وينعقد العزم على إيصال صورة معينة إلى ذهنه تحجب عنه الحقيقة.
***
قرأنا مئات وربما آلاف المرات مثل العنوان التالي: ”مسجل خطر من تجار المخدرات يلقى حتفه في الحجز“. الانطباع الأولي الذي يعتري القارئ ليس في مصلحة الضحية بكل تأكيد، والبدء بتعبير ”مسجل خطر“ يمهد لقبول التنكيل به، وإضافة ”المخدرات“ تسوغ ما يقع له مِن سوء وتجعله مشروعًا، بل وربما يشعر القارئ في لحظة ما بالارتياح للخلاص مِن الشخص المُشار إليه.
يتجاهل مثل هذا العنوان الحقيقة الأهم والأخطر وهي موت مواطن في مكان احتجاز رسميّ، يفترض أن تكون حياته آمنة فيه، بينما الصياغة المتلاعبة تضع الواقعة برمتها داخل إطار جديد، وتعتمد على التأثير الذي يحدثه هذا الإطار في وعي الناس؛ فهذا الذي لم يعد إنسانًا له حقوق وإنما صار ”مسجلا خطرًا“ بفضل العنوان، يستحق بالتبعية شكلا من أشكال العقاب ولو خارج ضوابط القانون، ولا بأس بالموت في ثقافة مجتمعية تعاني خللا واضحًا يقوض اعتمادها المبادئ الإنسانية العامة. التلاعب يجري على مستويات عدة، الصياغة أحدها وما قرَّ في الوعي المجتمعي مستوى آخر.
***
عنوان اعتمدته صحيفة شهيرة في الأيام الماضية حمل قدرًا لا بأس به من التلاعب، لكنه تلاعب مفضوح، ظاهر، إذ ذكر أن المرشحة المصرية لرئاسة اليونيسكو قد خسرت المنصب أمام المرشحة الفرنسية، والحقّ أن المعركة الانتخابية النهائية كانت بين قطر وفرنسا، والمراد من العنوان حذف ”قطر“ من المشهد وتحسين صورة الهزيمة المصرية، بما لا يجعلها من الطرف الذي دأب النظام السياسي على تحقيره والتهوين من شأنه في الفترة الأخيرة، المراد هو حفظ ماء الوجه وتجميل الهزيمة ولو خداعًا.
***

أحيانًا ما يترك العنوان المخادع أثرًا في نفوسنا ولو كنا واعين بما يحمله من زيف، فالانطباعات الأولى كما نقول دومًا: تدوم. قرأت مقالة في دورية أجنبية شهيرة تناولت حال الاشتباك بين ألمانيا وروسيا قبل فوز أنجلا ميركل بالانتخابات الماضية. موطن التناحر بين الجهازين الإعلاميين للدولتين الكبيرتين كان في العناوين غير الحقيقية التي تذيعها روسيا بطرق خفية والتي قد تؤدي -تبعًا لتخوفات ميركل حينها- إلى تغيير نتائج الانتخابات بصورة درامية، مثلما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية. قيل إن روسيا تتعمد نشر أنباء حول جرائم يرتكبها مهاجرون، وإن عنوانًا واحدًا مُفتعلا عن جريمة الجاني فيها هو مُهاجر مسلم أو عربي، يخفض من شعبية رئيسة الوزراء الألمانية ومِن احتمالات التصويت لصالحها، حتى لو أُعلِن عن كذبه وتأكد للقارئ سريعًا أنه غير حقيقيّ.
***
يُقال دائمًا إن اختيارَ العنوان فنٌ؛ بعض الكتب تحقق مَبيعات مُرتفعة بسبب عناوينها، وبعض الجرائد تعتمد على إثارة المارة بسخونة عبارات تنتقيها لتتصدر صفحاتها، فتنفد في التو واللحظة. مِن العناوين أيضًا ما هو طارد، يؤثر في نسبة الإقبال على شراء جريدة أو يُنَفِّر الناسَ مِن اقتناء كتابٍ ولو حوى داخله دررًا، ومِن الكُتَّاب مَن يبرعون في الوصف والتحليل والتنظير ويتخيرون لنصوصهم أسوأ العناوين، والعكس صحيح، والثابت في الأحوال كلها، أن العنوان يضع بصمته سلبًا أو إيجابًا؛ سواء كان النصُّ عِلمًا أو تخييلا، وسواء كان أطروحة تشغل مُجلدًا مِن مئات الصفحات أو قصيدة لا تتعدى سطورًا أو مقالة طويلة.. كثيرًا ما أشعر بعد انتهائي مِن النصِّ أنني قد أنجزت ما عليّ وأن اختيار العنوان يُثقِلني رغم أهميته، ويعوق انتقالي إلى نصٍّ جديد، لكني أكافح رغبتي في الهروب وأبذل جهدًا لانتقائه.
***
تعودت أن أولي انتباهًا خاصًا لما أطالع يوميًا في المطبوعات المختلفة ولا أنفك أُدقِّق في المتون بحثًا عما تعكسه العناوين، فحال الاستخفاف والتلاعب والمَيل إلى صوغ ما يجافي الحقائق، صارت واقعًا مريرًا، ومُداهنة السُلطة عبر عناوين براقة تحمل الكذبَ الصريحَ تارة وتخفي المعلومة الصحيحة تارة أخرى، غدت بمثابة مباراة يومية يخوضها القارئ أمام آلة الإعلام الماكرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved