الاعتراف بإسرائيل.. و«مسافة السكة»

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الثلاثاء 20 أكتوبر 2020 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

فى مقالنا الأخير: «دروس سياسية من أكتوبر وثورات يوليو ويناير ويونيو»، استعرضنا تاريخ مصر الحديث من محمد على وحتى عبدالفتاح السيسى، ولكنى كباحث أكاديمى لا يهمنى سوى الحقيقة والموضوعية، فإننى أعترف بأنه قد سقط منى سهوا أن أذكر أهم مساوئ حكم الرئيس الراحل أنور السادات، فقد كانت خطيئته الكبرى أنه فتح الباب على مصراعيه للتيار الدينى للمشاركة فى الحياة السياسية، ومن هنا وُلِد الإرهاب الذى نُعانى منه حتى اليوم، ليس فى مصر فقط، وإنما فى العالم العربى كله، وقد اغتيل السادات على يد هذا التيار المتطرف، والذى يمكن أن نسميهم بـ«عفريت فرانكنشتاين»، وهى قصة من الخيال العلمى بطلها فرانكنشتاين، عالِم استطاع أن يخلق إنسانا، ولكنه لم يستطع السيطرة على نموه، فتضخم وأصبح وحشا وعفريتا، وقال لخالقه قبل قتله: «كان يجب أن أكون آدم الخاص بك، لكنى بدلا من ذلك كنت الملاك السيئ»!
لقد رفع السادات، فى بداية حكمه، شعار «دولة العلم والإيمان»، وهذا شعار فيه تناقض لأن العلم متغير، والإيمان ثابت، والجمع بينهما يضر بالمفهومين، فلا العلم يستطيع أن ينطلق، ولا الإيمان يمكنه أن يتغير، ولنا عِبرَة فى العالِمين اللذين طالبا بفصل العلم عن العقائد: الأول، الراهب البولندى نيكولاس كوبرنيكوس (1473 ــ 1543)، أول من صاغ نظرية مركزية الشمس ودوران الأرض حولها، وأثبت خطأ نظرية أرسطو حول الحركة التى دعمتها الكنيسة لمدة 12 قرنا، وجعلت مجرد التشكيك فى هذه النظرية كفرا، فأحدث بذلك ثورة فى علم الفلك؛ والثانى جاليليو جاليلى (1564 ــ 1642) ــ فلكى وفيلسوف وعالم دين إيطالى ــ دافع عن نظرية كوبرنيكوس على أسس فيزيائية، فاتهمته الكنسية فى روما بالهرطقة (الكفر)، ولكن فى 1992 قدم البابا يوحنا بولس الثانى اعتذارا من الفاتيكان على ما جرى لجاليليو أثناء محاكمته 1623، وحاول إزالة سوء التفاهم بين العلم والكنيسة، وأعاد الفاتيكان لجاليليو كرامته وبراءته رسميا، وتقرر عمل تمثال له فى مقره!
***
وأما موضوع مقالنا اليوم، فهو ليس ببعيد عما سبق، يستعرض الآثار المدمرة لظاهرة التطرف الدينى، وخلط الدين بالسياسة، التى تؤدى إلى كوارث للأمم.
نرى اليوم العالم العربى يمر بأضعف حالاته، ولعل من أبرز الدلائل على ضعفه هرولة بعض الدول للاعتراف بدولة عنصرية، ومحتلة لأراضى دول عربية شقيقة (فلسطين وسوريا)، وتعتبر نفسها فوق القانون الدولى، وقاتلة الطفل محمد الدُرة، والمناضلة الأمريكية اليهودية راشيل كورى المدافعة عن الحق الفلسطينى؛ وفى المقابل نرى الدول التى طبعت حديثا مع إسرائيل ليست من دول المواجهة، ولا خطورة عليهم من الاعتداء الإسرائيلى، إذن لا يوجد لديها مبرر لفعلهم! فلماذا إذن حدث هذا؟
من وجهة نظرنا، أراد الغرب بزعامة إنجلترا، قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى، أن يحولوا منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة صراع دينى، من أجل التحكم فيها، وذلك بإعلان وعد بلفور 1917، وتأسيس جماعة الإخوان فى مصر 1928، عوضا عن انهيار الخلافة العثمانية 1924، وتم تحقيق وعد بلفور فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، فزرعوا إسرائيل 1948 فى الوسط العربى، باعتبارها وطنا قوميا لليهود، ولكن هذه ليست الحقيقة الكاملة، وإنما زُرِعت إسرائيل لتكون موطنا للصهيونية فى دولة خالصة لمعتنقى الديانة اليهودية، كانت هذه بداية لعنصرية خلطت بين الدين والسياسة، لأن ــ بكل بساطة ــ أصحاب الديانة اليهودية كانوا مستقرين فى ربوع البلدان العربية كمواطنين لهم كل حقوق المواطنة فى البلدان التى يعيشون فيها.
ففى أعقاب المذابح التى دُبرت لليهود فى أوروبا فى الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، لجأ اليهود إلى مصر حيث وجدوا الملاذ الآمن، وكانوا يشاركون فى الأنشطة الاقتصادية والسياسية على السواء، دون أدنى تمييز بينهم وبين المسلمين والمسيحيين، وكانت لهم معابد يمارسون فيها شعائرهم، وكان يوسف قطاوى باشا (يهودى) وزيرا للمالية 1924، ووزيرا للمواصلات 1925، وعضوا فى مجلس النواب 1923، وفى مجلس الشيوخ 1927، وكان واحدا من أعضاء الوفد المصرى الذى فاوض الإنجليز على الاستقلال والجلاء التام! ولم تكن مصر حالة استثنائية فى الوطن العربى، ولكن كان هذا الوضع موجودا فى العراق والمغرب وتونس واليمن..
إن المصريين كانوا ــ ومازالوا ــ يفرقون بشكل واضح بين اليهودية باعتبارها ديانة سماوية، شأنها شأن الإسلام والمسيحية، وبين الصهيونية بوصفها عقيدة سياسية تستغل الدين لتستحل الاستيلاء على أراضى الغير دون وجه حق!
***
كانت إذن إسرائيل هى البذرة الأولى لدولة عنصرية تخلط بين الدين والسياسة، ومن بعدها انتشرت فكرة الدولة الدينية، فقامت ثورة الخومينى فى إيران 1979، أول ثورة أتَت بحكم الإسلام السياسى فى المنطقة، فى القرن العشرين، وأعلنت الجمهورية الإسلامية، وولاية الفقيه، وكانت أهم أهدافها التوسع الشيعى على حساب المذهب السُنى، صاحب الأغلبية فى العالم العربى، ثم ظهر أخيرا فى 2003 الرئيس التركى أردوغان الذى وصل إلى الحكم بفضل علمانية الدولة ــ التى انقلب عليها ــ والتى أسسها مصطفى كمال أتاتورك بعدما ألغى الخلافة الإسلامية، وأسسَ تركيا الحديثة، جاء أردوغان ليُعيد أطماع الدولة العثمانية، وتوسعاتها باسم الدين؛ ومن ناحية أخرى، قال جورج بوش (الابن)، عقب هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001، وقبل حربه على العراق: «سوف أعلنها حربا صليبية سوف تستمر وقتا»!
هذا هو المشهد بشكل عام، وكان من المُخطط أن تنضم مصر لهذا السرب الضَال، وذلك بتمكين جماعة الإخوان من حكم مصر، كى تتم الدائرة، وتصبح هى أيضا دولة دينية، وبهذا تصبح كل الدول المركزية فى المنطقة دولا دينية، تمهيداــ فيما بعدــ لتحقيق الهدف الحقيقى لإسرائيل الذى أَعلنته فى 2018 بأنها دولة خالصة لليهود فقط، لكن ثورة 30 يونيو قلبت كل الموازين، وأربكت كل المخططين، فكان لابد من معاقبة المصريين لأنهم أفسدوا هذا المخطط المشئوم الذى لن تستفيد منه سوى إسرائيل!
ومن هنا جاء القرار بمعاقبة مصر حتى لا تقوم بأدوارها القومية فى المنطقة العربية، ولكن السؤال الآن كيف يمكن معاقبة مصر، وتحجيم دورها فى المنطقة؟
***
بدأ المخطط بضرب مصر من الداخل، فاختطف الإخوان ثورة 25 يناير لحسابهم، وأعلنت الجماعات المتطرفة حربها فى سيناء، وفى جميع أنحاء الوطن، ولكن الجيش المصرى بالتعاون مع جهاز الشرطة استطاعا أن يُجهضا هذا المخطط، فبعد 30 يونيو، استقامت الجبهة الداخلية، وعاد الأمن والأمان فى كل ربوع مصر، وعادت التنمية فى الداخل، وبدأت مصر تستعيد عافيتها، لتبدأ دورها الريادى فى الوطن العربى.
وبما أن الأمن العربى القومى يُعد من أهم أدوار مصر، فقد أعلن الرئيس السيسى أن أمن الخليج من أمن مصر، فأطلق فى إحدى زياراته للشقيقة المملكة العربية السعودية ــ منذ خمس سنوات تقريبا ــ تعبيره الشهير «مسافة السكة»، وقد قصد بهذا أن مصر لن تترك أى دول عربية بمفردها إذا وقع عليها هجوم من إيران أو تركيا، وأن الجيش المصرى سيكون فى قلب المعركة للدفاع عنها، وأن الوقت الذى سيأخذه الجيش المصرى للمشاركة هو «مسافة السكة».
وفى علم اللغة الحديث، توصف «مسافة السكة» بـ«الجملة الصغيرة» (petite phrase) أو بـ«التعريف المقتضب» (aphorisme)، ومن طبيعة هذه النوعية من التعبيرات أنها تُكثف معانى ومفاهيم عديدة فى كلمتين، يمكن أن يحتويها كتابان، مثلما لخص مبارك عهده بكلمتين بقوله: «خليهم يتسلوا»، كشف بهما عن منهجه وتاريخه فى ثلاثين عاما، فصِغَر الجملة يعطيها زخما كبيرا يكون له تأثير قوى، فقد لخصت «مسافة السكة» المواقف السياسية والعسكرية لمصر، وأبرزت بوضوح الالتزامات الدفاعية نحو العالم العربى، ولقد كان لهذه الجملة الصغيرة فى حجمها، والكبيرة فى معانيها تأثير قوى استمر حتى الآن.
وفى جملة صغيرة ثانية للرئيس عبر بها عن موقف مصر تجاه احتلال تركيا لليبيا: «سرت والجفرة خط أحمر»، كان لهذه الجملة تأثير السحر! فقد أعربت بحزم عن موقف مصر السياسى والعسكرى تجاه العدوان التركى، فتوقف على الفور مشروع تركيا لاحتلال المدينتين الليبيتين، وتبدل الخطاب التركى العدوانى تجاه مصر بخطاب فيه مودة، وتراجعت مرتزقة أردوغان، بل وبدأ الأخير بنقلهم من ليبيا إلى جنوب البلقان، وذلك دون أن تُطلِق مصر قذيفة واحدة، ودون أن يدخل جندى مصرى واحد فى الأراضى الليبية!
والآن لنا أن نتساءل: لماذا «مسافة السكة» لم يكن لها نفس المفعول فى الخليج مثلما فعلت «سرت والجفرة خط أحمر» فى ليبيا؟
من وجهة نظرنا، نرى أن اعتراف دولتين خليجيتين أخيرا بإسرائيل يُعبر عن حالة من الخوف والفزع قد انتابت الدولتين، خاصة أن الاعتراف تم بدون أى مقابل، سوى البحث عن حماية جديدة لهما، ونعتقد أيضا أن حالة الهلع التى أصابت المُعتَرفَتين بإسرائيل جاءت لعدة أسباب، من أهمها أنهما تشككتا فى مفعول «مسافة السكة»، فقد نجح أعداء مصر، وأعداء الأمة العربية بمحاولة إشغال مصر عن أدوارها القومية، وذلك بإشعال حرب ضدها من ليبيا، وبمساندة عدوان أثيوبيا على منابع النيل ببناء سد النهضة؛ وعلى المستوى العالمى، أدى فشل الجهود الأمريكية المكثفة لاستصدار قرار من مجلس الأمن بتمديد حظر تجارة الأسلحة مع إيران إلى شعور حلفاء أمريكا بانعدام الأمن، وأدى هذا لانكسار فكرة أن أمريكا هى القطب الأوحد، وتَحَوُل نظرة العالم لصالح التعددية القطبية بصعود الصين، وتزايد الدور الروسى.
وختاما، نقول أن أسوأ القرارات التى يتخذها شخص أو شعب أو دولة هى التى تؤخذ فى لحظات الخوف، فالظن بأن الاعتراف بإسرائيل فيه حماية للدولتين، ويمكن أن يحقق سلاما فى المنطقة بعيدا عن مبادرة السلام العربية (2002) للملك عبدالله بن عبدالعزيز (طيب الله ثراه)، وبديلا عن «مسافة السكة»، هو وَهْم، وهو بالضبط كالمُستَجيرِ مِنَ الرَمضاءِ بالنارِ، وصدق رسول الله: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَالِحِ وَالسَوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمَا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحا طَيِبَة، وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمَا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَا أَنْ تَجِدَ رِيحا مُنَتَنة»!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved