إما الصعود المستمر أو السقوط المدوى

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 20 نوفمبر 2014 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

دعيت مرُّة لإلقاء كلمة مختصرة تمهيدية فى لقاء سيتحدّث فيه معلم وقائد روحى قادم من الهند. شبهّت فى حديثى الإنسان المتطلّع للوصول إلى الصّفاء الروحى والسمو الأخلاقى الإنسانى الرفيع بالشخص الذى يريد الصعود إلى قمّة جبل شديد العلو، عمودى مستقيم، غير منحنٍ ولا الطريق إلى قمتّه متدرّج.

وعليه فالمتسلّق يجب أن يدرك أنه لا يستطيع أن يرخى عضلاته المتعبة ليستريح، ولا يستطيع أن يضمّد يده الدّامية ليعاود الصعود. لأنه إن فعل ذلك فسيتزحلق من المستوى الذى وصل إليه إلى قاع الجبل، أى إلى النقطة التى بدأ منها رحلة صعوده. إنها رحلة تحتاج إلى عزيمة وعناد وتحُّمل الكثير من الآلام.

فى اعتقادى أن ذلك التشبيه ينطبق على من يريدون تسُّلق جبال الثورات والحراكات التغييرية الكبرى من أجل الوصول إلى قممها، حيث العدالة والحرية والمساواة والإخاء والكرامة الإنسانية.

رحلة الوصول إلى قمم التحولات المجتمعية الكبرى تتماثل مع رحلة الصعود الروحى والأخلاقى. أيُّ تراخٍ فى الطريق إلى كليهما يعنى الانحدار والسُّقوط المفجع الحامل لأخطار حياتية مؤكّدة.

•••

مناسبة هذه المقدّمة هو اللّغط، المفتعل منه والمبرّر، الذى يملأ أرجاء الوطن العربى، حول ما حصل إبّان الأربع سنوات الماضية من ثورات وحراكات قامت بها بعفوية جماهير الشعوب العربية، وحول ما آلت إليه تلك الحراكات بسبب نجاح بعض قوى الخارج والدّاخل فى حرفها عن مسارها أو إدخالها فى دهاليز خلط الأوراق أو تسلُّم قيادتها فى المرحلة الانتقالية ممَّن ليس بالكفؤ للنضال من أجل أهدافها.

الرّد المطلوب على ذلك اللّغط هو عدم التوقُّف عن التسلُّق نحو القمم المراد الوصول إليها، إذ إن ذلك سيعنى الانزلاق مرة أخرى نحو قيعان التسلُط والاستبداد والإذلال والعيش فى وحل التهميش، وإنما الاستمرار فى الصُعود حتى ولو كان الصعود بطيئا وموجعا فى درب سيطول. ما عاد بالمقبول النظر إلى الهاوية التى تعج بالدجاج المنكس الرأس الذى يكتفى بالبحث عن دود الأرض وإنما المطلوب تركيز الأنظار نحو القمم حيث تحلق النسور فى فضاءات نور وهواء العزة والمجد والحرية.

•••

لنذكر أنفسنا بأننا أمُة، أوصلها من أولها عبر القرون إلى أوضاع سياسية بائسة، إلى اقتصاد ريعى لا يستطيع الانطلاق نحو تنمية إنسانية شاملة مستمرة، إلى تمزُق قبلى على حساب اللحمة الوطنية الجامعة، إلى سجالات سخافات فقهية نقلت دين الإسلام إلى متاهات الطائفية والصّراعات مع الأديان الأخرى، إلى الوقوف عند باب العلم والتكنولوجيا كأمة مستجدية تعيش على الفتات، إلى ممارسة ثقافة العلاقات الأبوية البطريكية المهيمنة مع الأطفال والنساء والتلاميذ والعمُال والموظفين وسائر زملاء مسيرة الحياة.

لنذكُر أنفسنا بأن أمة تعيش أوضاعا متخلفة، شاملة كل مناحى الحياة، لن تستطيع النهوض من خلال عملية ترقيع هنا أو من خلال إصلاحات آنية جزئية هناك. وهى أمة لن تسمح لها ظروفها البالغة السوء بترف استراحة المحارب كما تفعل بعض قيادات ثورات وحراكات الربيع العربى.

نقول ذلك لأن الأمة ستواجه كارثة تاريخية لو وجدت نفسها مجبرة على الانزلاق نحو هاوية المربع الأول الذى ظننا منذ أربع سنوات أن الأمة قد غادرته من دون رجعة.

قد يبدو الكلام عن هذا المنطق، المنطق الذى يحكم صعود وهبوط الأمم أثناء محاولاتها إجراء تغييرات كبرى فى مسيرة حياتها، قد يبدو وكأنه صرخة يائسة وعابثة فى الأجواء المأساوية التى تغلف الأرض العربية فى هذه اللحظة التى تعيشها الأمة.

لكن هذا التحفُظ والخوف لا محل لهما. ذلك أن ازدياد آلام وجراح الأمة وإحساس الكثيرين بالضياع يجب أن يدفعا شباب ثورات وحراكات الربيع العربى، ومن ورائهم الأمة بأجمعها، لتركيز الأنظار والأفئدة على ما ينتظرنا فى القمة، وبالتالى ممارسة الصعود حتى ولو كان ضئيلا وتدريجيا بسبب الأجواء العاصفة التى تحيط بنا، وذلك بدلا من التفتيش عن منطقة آمنة عند أقدام الجبل لنمارس الانزلاق الآمن نحوها.

مثلما أن مسيرة صعود جبل السمو الروحى والأخلاقى قد تنهار أو تتوقف بسبب ضعف الإنسان تجاه رذيلة واحدة لم يستطع تجنُبها أو بسبب استرخاء عزمه أمام غواية هائلة لم يستطع مقاومتها.. فإن الأمر نفسه ينطبق على مسيرات الثورات والحراكات الكبرى.

هذه أيضا يجب أن تقاوم إغراءات الرذيلة النضالية ووهج الغوايات المزيف فى الساحة السياسية. ستختلف الإغراءات والغوايات فى مختلف الأقطار العربية وتحت ظروف متباينة، لكن النتيجة ستكون واحدة: دخول قوى الحراكات والثورات فى جدل المماحكات الكلامية العابثة وتأجيل موعد الصعود إلى القمم الحضارية الإنسانية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved