شايٌ وقَهوَة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 20 نوفمبر 2020 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

فوقَ الرصيف وإلى جانبِه، في الشوارع الفرعيةِ والرئيسة، في مناطقٍ مُتطرِّفة لا يتوافد عليها المارةُ بغزارة، وأمكنةٍ مزدحمة لا تخلو من عابرين ومُتسوِّقين؛ تقف سياراتٌ تُعلِن عن استعدادها تقديم أكوابِ القهوةِ لمَن يريد.
***
السياراتُ متباينةُ الأحجامِ؛ منها الصغير الذي لا يشغَل مساحةً في انتظارِه للزبائن، والضَّخم الذي يحتلُّ مكان سيارتين عاديتين على الأقل. صاحبةُ البابين تؤدي الوظيفةَ ذاتها التي تؤديها صاحبة الأربعة، وتقليديةُ الارتفاعِ تُنجِز عملَ ذواتِ الدَّفع الرباعيّ؛ تختلف الهيئةُ فيما الوظيفةُ ثابتةٌ لا تتغيَّر.
***
على الأبوابِ رسومٌ مُبهِجةٌ وألوانٌ زاهيةٌ وكلماتٌ أجنبيةٌ وعربيةٌ؛ يتفنَّن واضِعُها في جذبِ الزبائن، وأحيانًا ما ينسابُ للهدف نفسه؛ صوتُ الموسيقى من النوافذ، ويحمِلُ السقفُ مُجسَّمًا لفنجانٍ أو كنكة.
***
حقَّقت مركباتُ بيعِ القهوةِ نجاحًا بكل تأكيد؛ الكثرةُ تفضح تناميَ الطَّلب، وتنامي الطَّلب يفضح الحاجةَ. كثير الناسِ لا بُد وأن يبدأ يومَه بفنجانِ القهوةِ على اختلاف مُكوناتها؛ داكنةٌ أو مُطعَّمةٌ بالَلبن، تذوب فيها حبيباتُ السُّكر أو لا تقربُها، تختلِطُ بأصنافِ العِطارةِ وتثقلُها التحوِيجَةُ أو تخلو منها؛ المهم أن تنسابَ في الجِّسم شُحنةُ الكافيين المطلوبة وأن تجري مَجرى الدَّم، وتصل إلى المُخ فتدفعه إلى الاستفاقةِ والتيقُّظ، وتُعلِن عن بدءِ الحياة.
***
بعضُ السياراتِ انتبهت لمُريدي الشاي؛ فزادته على ما تُقدِّم من أنواعِ القهوة. صادفت مؤخرًا عربةً عتيقةً عمرها يربو على نصفِ القرن، تحتلُ مكانَها فوقَ أحدِ الأرصفةِ، وتفتح قلبَها كاشفةً عن صفوفٍ من الأكوابِ، وماكينة تخلِط المُكوِّنات، وتُخرِجها تحت مُسمَّى من المُسمَّيات الكثيرةِ الوافدة: قهوة اسبريسو، لاتيه، موكا، كابتشينو وأخرى. في ذاكرتي القريبة؛ هذه هي العربةُ الأولى التي ترفع لافتةَ "قهوة وشاي"؛ تحتلُّ القهوةُ مكانَها المُتقدِّم، والشاي يلحقُ بها منافسًا مُتمرِّسًا وعتيدًا.
***
للشاي قطعًا زبائنُه، هو عنوانُ ترحيبٍ، ودعوةٌ لتبادلِ الحوار، وسبيلٌ لبدءِ حديث. عبارةٌ تكرَّرت على الألسنةِ ملايين المرَّات: "اتفضل نشرب كوبايتين شاي"، والمعنى إفساح المجالِ لتفاعُلٍ أوسعَ بين طرفَين. للقهوةِ أيضًا مَكانتها في التعارُف والاقتراب؛ فمِن الناس مَن يكني رغبتَه في لقاء وكلام بقولةٍ قصيرةٍ: نأخذ قهوة.
***
الشاي ألوان والقهوة أيضًا. هو أحمر أو أخضر تبعًا للغرَضِ والمَقام، وهي كذلك؛ بُنيةٌ أصيلةٌ أو خضراءٌ، أو هي قهوةٌ عربيةٌ؛ لا تحوي الكافيين، بل مَزيجًا مُميزًا قوامُه الهيل، ويُقال إنه يغسِل الأمعاءَ ويُحسِّن الهضمَ، ويمتص من الجسمِ السُّموم.
***
بعضُ الناس يُفضِّلون السُّكرَ "زيادة"؛ قهوةً أو شايًا. السُّكر يَذهَبُ بالمرارةِ وما أوفرها وأقساها في أيامِنا هذه؛ لكنه يذهب أيضًا بخُصوصيةِ المذاق.
***
في حضورِها وعددِها؛ صارت سياراتُ القهوةِ والشاي بمنزِلة مُنافسٍ لعرباتِ الفول والطعمية، ولعرباتِ البطاطا والذرة أيضًا؛ لكن الأولى تبدو ولا شكّ أكثرَ وجاهةً وأرفعَ شأنًا؛ إذ الواقف في حماية جِسمٍ ضخم، مَصنوع من مَعدنٍ ثقيل، يملِك عجلةَ قيادةٍ ودوَّاسةَ بنزين ومُحركًا؛ لأفضل وضعًا بكل تأكيد مِن الجائلِ بعربةٍ خشبيةٍ ذات عجلتين؛ تتحركان بقوةِ البدنِ وحده. خلفَ الأولى في الأغلبِ شابٌ، يرتدي زيًا أنيقًا ويخدِمُ طبقةً وسطى ينتمي إليها؛ لا تزال تملِك الترفيهَ عن نفسها إلى حد ما، ولا تجبرها رقَّةُ الحال على استهلاك الأطعمةِ المُتواضعةِ حصرًا، بينما يعملُ على الثانيةِ شخصٌ أقلَّ مكانةً وحظًا.
***
في مَديحِ الشاي والقهوةِ صيغت قصائدٌ، وفي فوائدِهما قال العلماءُ الكثيرَ؛ لكن الأقوالَ تتغيَّر بمرورِ الوقتِ والدراساتُ لا تُعَدُّ نهائيةَ الحُكم، كما أنها لا تُقدِّم دومًا النتائجَ نفسَها؛ بعضُها ينسِبُ للقهوةِ فعلًا كالسِّحر على الشرايين، والبعضُ الآخر يُزيل فضائلَها ويعزو إليها الشرور. من الدراسات أيضًا ما يرفع الشاي إلى مَرتبةِ الترياق الواقي من أمراضٍ عِدة، وما يُحذِّر مِن الاعتياد على تناوُله. يتناقلُ الناسُ هذا وذاك؛ لكن الشايَ والقَّهوةَ عادةٌ، والعادةُ أقوى من أي تحذيرٍ أو تنبيه، والحقُّ أن عُشّاق المشروبين لا ينصتون لنصيحةٍ ولا يعبأون بدراسةٍ أو بحث؛ فرائحةُ البُّن المُكثَّفة وأبخرةُ الشاي المتصاعدة، كفيلة بمَحو ما سواها مِن الذاكرة.
***
اعتدت العَودةَ ليلًا مِن طريقٍ بعينها رغم تعدُّد المَسالِك، أحبَبت مرأى المُتحلِّقين حول السيارةِ الفرنسيةِ القديمة؛ يحفهم عبقُ البُنِ الدافئ، ويجمعهم ودٌّ مُشترك؛ وإن لم تقُم بينهم مَعرفةٌ سابقة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved