لعبة بلا قواعد

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الخميس 20 ديسمبر 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

أعجب عنوان صحفى وقعت عليه هذا الأسبوع، كان الذى تصدر واجهة إحدى صحف الأحد الماضى 16/12، ونصه كالتالى: جبهة الإنقاذ: المؤشرات 65٪ يرفضون الدستور وأى نتيجة مخالفة تؤكد التزوير. وهذه المعلومة التى حددت نسبة الرافضين وقطعت بأنها إذا قلت عن ذلك فستؤكد التزوير، يفترض أنها كتبت وأرسلت إلى المطبعة قبل موعد إغلاق الصناديق الذى جرى مده إلى الحادية عشرة مساء. وهى تذكرنا بإصرار الحركة الصهيونية على أن النازيين الألمان أعدموا ستة ملايين يهودى أثناء الحرب العالمية الثانية، واعتبرت أى نزول عن ذلك الرقم جريمة يستحق صاحبها العقاب، فى أوروبا على الأقل. علما بأن الصهاينة كانوا أكثر احتشاما من الجريدة المصرية التى نشرت العنوان، ذلك أنهم انتظروا عدة سنوات حتى أطلقوا ادعاءهم، فى حين أن أصحابنا تلهفوا على إعلان التزوير قبل موعد إغلاق صناديق الاقتراع.

 

كانت الصحف المصرية صباح أمس قد ذكرت أن وزير العدل المستشار أحمد مكى طلب من محاكم الاستئناف السبع على مستوى الجمهورية ندب قضاة للتحقيق فى كل البلاغات التى تحدثت عن انتهاكات شابت المرحلة الأولى من الاستفتاء، وهو التحقيق الذى كان يتعين انتظار نتائجه للتعرف على ما إذا كان هناك تزوير أم لا، وما هو حجمه إن وجد؟. أما الإصرار على حدوث التزوير وتجنيد العديد من المنابر الإعلامية لإقناع الناس بأن الأمر مقطوع به ولا يقبل المناقشة، ودعوة الجماهير إلى الخروج فى مسيرات للاحتجاج على التزوير، الذى تم التعامل معه باعتباره حقيقة لا تقبل المناقشة. حتى أن إحدى الصحف خرجت علينا بعنوان أحمر من كلمة واحدة هى (المزورون)، وظهرت الكلمة فوق أرضية سوداء تنعى لنا مأتم الديمقراطية.

 

إلى جانب ذلك فقد بدا محيرا أن تصر الأبواق الإعلامية طول الوقت على التزوير رغم أن فارق الأصوات التى أعلنت جاء متواضعا (57٪ قالوا نعم و43٪ قالوا لا)، وهو ما دفع البعض إلى عدم الاعتداد بهذه الأغلبية فى تمرير الدستور، وقال قائلهم إن النسبة التى أعلنت تعنى أن المجتمع شبه منقسم إزاءه، وذلك مؤشر سلبى. بالتالى فلكى يطمئن إلى قبول المجتمع به فسيتعين أن يصوت لصالحه الثلثان. وقد كان بوسع المزورين، إذا كانوا قد فعلوها، أن يرفعوا من نسبة المؤيدين لكى يتجنبوا ذلك النقد، لكن ذلك لم يحدث، الأمر الذى يعنى أنهم لايزالون محدثين، حتى فى التزوير.

 

لم يقف الأمر عند ذلك الحد، لأن اللعب فى الأخبار المتعلقة بالاستفتاء استمر فى نشر نتائج فرز أصوات المصريين فى الخارج، وكان الحصر النهائى لعمليات الفرز قد أوضح أن 69٪ منهم أيدوا مشروع الدستور، فى حين 31٪ عارضوه. لكن بعض صحفنا أصرت على أن مصر قالت لا والتزوير قال نعم. وذكرت صحف أخرى أن الرافضين للدستور فى الخارج (اكتسحوا) مؤيديه. وقد وجهت الرسالة إلى الذين يقرأون العناوين فقط، لأن التفاصيل المنشورة ذكرت النسبة الحقيقية التى لم تدل على أى (اكتساح) حتى من قبل المؤيدين.

 

ما همَّنى فى الأمر هو المدى الذى بلغه الاستقطاب، والذى جعل البعض لا يترددون فى إهدار أبسط قواعد المهنة ـ لا تسأل عن الأخلاق ـ لكى يكثفوا من حملة الرفض والتحريض. وهو ما كان يمكن أن يتم بأسلوب أكثر احتشاما واحتراما لقواعد المهنة ولعقل القارئ.

 

ذلك الإهدار لقواعد المهنة والتلاعب غير الأخلاقى بالمعلومات والحقائق يقدم دليلا آخر على استغراق النخبة ليس فقط فى محاولات تشويه الآخر وهدمه، وإنما أيضا فى الإصرار على هدم قواعد اللعبة واحدة تلو أخرى. حتى أزعم أن إحدى مشكلات مصر الآن ليست فقط فى الاستقطاب الحاد المخيم عليها، وإنما أيضا فى أن صراع النخبة أصبح يمارس بلا قواعد. بالتالى فكل ما يحقق إقصاء الآخر وإنزال الهزيمة به يظل مقبولا ومرحبا به، بصرف النظر عن الوسائل التى استخدمت لتحقيقه، وحتى إذا أدى ذلك إلى شل حركة الإنتاج فى المجتمع، وتشويه صورة الثورة المصرية أمام العالم الخارجى.

 

لقد أدهشنى مثلا لجوء البعض إلى الاعتصام أمام مدينة الإنتاج الإعلامى احتجاجا على ممارسات بعض القنوات الفضائية، واستغربت أن يذهب آخرون لمحاصرة مقر المحكمة الدستورية. ولم أفهم سببا لاستهداف قصر الاتحادية ولم أستطع أن أفترض حسن النية فى إظهار أحد مقدمى البرامج رسما تقريبيا لموقع مكتب رئيس الجمهورية، ويتصادف أن يتم ذلك أثناء اتجاه البعض إلى مقره. لكن ما صدمنى حقا ــ ولازلت عاجزا عن تصديقه ــ لجوء مجموعة من وكلاء النيابة إلى محاصرة مكتب النائب العام وإجباره على الاستقالة من منصبه. ولم أصدق عيناى حين قرأت فى صحف اليوم التالى تهليلا لهذه الخطوة التى لم يشهد التاريخ القانونى لمصر لها مثيلا من قبل، واعتبرها بعض الشخصيات السياسية والفضائية عملا وطنيا شجاعا.

 

إن مشكلة اللعبة التى تتم بلا قواعد لا تكمن فقط فى أن كل أطرافها يخرجون خاسرين، ولو ظنوا غير ذلك، وإنما الأخطر من ذلك أن خسارة الوطن تصبح أكبر وأفدح. تصبح بلا حدود!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved