مصر بين نهاية التاريخ وصراع الحضارات

محمد المنشاوي
محمد المنشاوي

آخر تحديث: الجمعة 20 ديسمبر 2013 - 8:44 ص بتوقيت القاهرة

يمثل الحراك السياسى الذى تشهده مصر منذ بدء ثورة الخامس والعشرين من يناير حالة فريدة يتقاطع مساراها مع اثنتين من أشهر النظريات السياسية التى ظهرت فى العقود الأخيرة، وهما نهاية التاريخ وصراع الحضارات.

فى عام 1989 كتب الأكاديمى الأمريكى ذو الأصل اليابانى فرانسيس فوكوياما مقالا عنوانه «نهاية التاريخ»، قائلا فيه إن عصر الاستبداد والنظم الشمولية قد ولى وانتهى إلى دون رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية واقتصادات السوق. وقصد فوكوياما بدرجة كبيرة أن يعارض فكرة نهاية التاريخ فى نظرية كارل ماركس الشهيرة «المادية التاريخية»، والتى اعتبر فيها أن تاريخ الاضطهاد الإنسانى سينتهى عندما تزول الفروق بين الطبقات. رأى فوكوياما أن المجتمعات الانسانية وضعت حدا لتطور الأفكار الأيديلوجية بانتشار قيم الليبرالية الديمقراطية. وتقوم نظرية فوكوياما من عدة منطلقات، أهمها أن الصراع التاريخى المتكرر بين السادة الحكام والعبيد المحكومين لا يمكن أن يجد له نهاية واقعية سوى فى الديمقراطيات الليبرالية. وتمثل مصر خلال السنوات الثلاثة الأخيرة صفعة لنظرية فوكوياما ونظرية ماركس معا، فلم يتم بعد خلق مجتمع يقضى على ثنائية السادة والعبيد مع استمرار سيطرة نفس النخبة القاهرية التى تدعى الليبرالية على مقدرات ملايين من المصريين فى الدلتا والصعيد. كما أن فرص نجاح بناء مجتمع يساوى بين حقوق الحكام والمحكومين، وبين الفقراء والأغنياء، ويؤسس لحياة سياسية ديمقراطية تحترم فيها قيم الليبرالية والتعددية المجتمعية والسياسية الحقيقية - تكاد تكون معدومة.

•••

ما أن نجحت ثورة 25 يناير فى اسقاط الرئيس السابق حسنى مبارك، إلا واعتقد البعض أن ساعة الخلاص من الاستبداد قد حلت. إلا أن مظاهر عودة دولة الاستبداد تسير على قدم وساق خلال الأشهر الأخيرة، ولم يقاوم رموز التيار الليبرالى حتى الآن هذه العودة. بل يبرر منظرو الليبراليين ما ثارت عليه جموع الشعب المصرى خلال السنوات الثلاث الماضية من انتهاكات أبسط حقوق الإنسان كالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية على يد أجهزة الدولة الأمنية.

يدافع منظرو الليبرالية المصرية اليوم عن جهود بناء استبداد جديد فى صيغة عصرية عن طريق توظيف خاطئ لمسلمات على شاكلة الحفاظ على هيبة الدولة، والحرب على الإرهاب. وفى سبيل هذا أقرت الحكومة المؤقتة غير المنتخبة قانونا شائنا لحق التظاهر. قانون لو تم الالتزام ببعض مواده خلال السنوات الثلاث الماضية لكان اسم رئيس مصر اليوم «جمال مبارك». لكن السؤال هو لماذا يتبنى هؤلاء الليبراليون هذه المواقف؟ يكمن الجواب فى «الناخبين»، حيث إن الليبراليين فشلوا فى طرح ما يتوافق مع تفضيلات غالبية الناخبين المصريين، ناهيك أن ثلثى الأصوات فى جميع الانتخابات الحرة ذهبت إلى ممثلى تيار الإسلام السياسى.

ولهذا السبب يدعم أغلب رموز الليبرالية المصرية اليوم دستورا يقنن لوضع خاص للمؤسسة العسكرية، ويمنحها حق محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية فى حالات مختلفة. ويصمتون أمام قرارات داعمة للاستبداد لا تستهدف تنظيم الإخوان المسلمين فحسب، بل تتجاوزه إلى عدة فئات فى المجتمع فى مقدمتهم النشطاء الثوريين الذين أعتقل مؤخرا بعض رموزهم مثل أحمد دومة وعلاء عبدالفتاح وأحمد ماهر.

ومنذ عزل الرئيس محمد مرسى فى 3 يوليو، وجدت القلة التى مازالت متمسكة بمبادئ الليبرالية الحقيقية نفسها مهمشة مع تبديد آمال ثورة 2011 مثل محمد البرادعى وعمرو حمزاوى.

•••

وفى عام 1993 كتب صمويل هنتجتون مقالا فى مجلة فورين أفيرز بعنوان «صراع الحضارات» أثار جدلا كونيا لأنه لمس وترا حساسا لدى الشعوب المنتمية إلى حضارات العالم. وتناول مفاهيم الاختلافات الحضارية، وميزان القوى المتغيرة بين الحضارات، وأشار إلى قوة ظاهرة العودة إلى المحلية والجذور فى المجتمعات غير الغربية. قسم هنتجتون حضارات العالم بين الصينية واليابانية والهندية والإسلامية والغربية والأرثوذكسية والأفريقية وحضارة أمريكا اللاتينية. وطبقا لهنتجتون فالصدام هو جوهر ما يحكم العلاقة بين تلك الحضارات، وهذا الصدام أساسه الثقافة أو الهوية التى تحكم كل حضارة. سياسة الهوية حقيقة واقعة فى العالم من حولنا، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك مجتمعات تراثها وروافدها مسيحية مثل القارة الأوروبية والأمريكيتين. ولا يستطيع أحد أن يحيد أو ينكر وجود تأثير كبير للدين فى السياسة الأمريكية أو السياسة الأوروبية، ونفس الشىء ينطبق على إسرائيل ويهوديتها.

اهتم هنتجتون بصورة خاصة بالعالم الاسلامى كمجال حضارى له موقع استراتيجى فى العلاقات الدولية. البعص انتقد نظرية صراع الحضارات لإشاعتها صورة سلبية وقاتمة عن العالمين العربى والإسلامى فى الغرب، حيث إنها جعلت من الإسلام المصدر الرئيسى للعنف والإرهاب فى العالم، وصورته على أنه الأكثر صدامية وعداء للغرب. واستغل هذه النظرية مجموعات يمينية متشددة من المحافظين الجدد عبأت وحشدت قواها ليبدو المسلمين وكأنهم خطر شديد ليس فقط على أمريكا بل على كل البشرية.

•••

إلا أن ما يثير الصدمة فى مصر اليوم هو استدعاء ماكينة الإعلام والثقافة الحكومية وغير الحكومية بطريقة متهورة لصورة نمطية شديدة السوء لكل ما هو ذو مرجعية إسلامية، وكأنهم يطبقون كلام هنتجتون. ولم تقف هذه الجهود على الإضرار فقط بممثلى تيار الإسلام السياسى، بل تعد ذلك إلى التشكيك فى هوية وثقافة مصر الإسلامية. وواصلت ماكينة الترهيب أعمالها حتى طالب العديد ممن يوصفون بمفكرين وصناع الرأى بضرورة منع ممثلى التيار الإسلامى من أى مشاركة فى الحياة السياسية الآن ومستقبلا، ناهيك عن تشكيك البعض فى مصريتهم.

العودة إلى الأصول وأحياء الدين ومنظومة المعتقدات هى ظاهرة عالمية، لذا فالتوجه إلى الإسلام كمصدر للهوية ليس خطيئة فى حد ذاته. الخطيئة تحدث عندما يتم التمييز باسم الإسلام، أو ضد غير المسلمين، وحين لا يتساوى الجميع فى كل الحقوق والواجبات بغض النظر عن دياناتهم. تيار الإسلام السياسى ما هو إلا أحد المكونات فى عملية الإحياء الواسعة للأفكار والمعتقدات فى مصر وغيرها من الدول ذات الأغلبية السكانية المسلمة.

باسم الإسلام يمكن أن تقيم مجتمع عادل متعدد ديمقراطى حديث، وباسم الإسلام أيضا يمكن التأسيس لمجتمع الظلم والضلال والاستبداد. لكن الأكيد أن استبعاد أهم ممثلى تيار الإسلام السياسى المعاصر من العملية السياسية فى مصر سيؤدى إلى أى شىء عدا الديمقراطية الحقيقية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved