تونس: حكومة متعثرة.. برلمان يتخبّط.. رئيس صامت

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الجمعة 20 ديسمبر 2019 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع درج مقالا للكاتبة فاطمة بدرى... جاء فيه ما يلى:

ارتباك كبير يخيم على مؤسسات الحكم فى تونس منذ الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة، التى أسدل الستار عليها نهائيا منذ بداية نوفمبر. فبعد مرور أسابيع ما زال مسار تشكيل الحكومة متعثرا، بل إن رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملى طلب مهلة شهر إضافية لعلّه يحقق مسعاه.

فى البرلمان، الوضع يبدو أكثر تعقيدا فى ظل عدم وجود أغلبية واضحة للحكم بسبب التناقضات الواضحة بين مجمل الأحزاب الحاصلة على كتل نيابية. أما رئاسة الجمهورية ممثلة بقيس سعيد، فما زالت تتخبط فى غموضها ولم تكسر عزلتها لتباشر مهماتها فى سياق صلاحياتها كاملة، لا سيما المتعلقة بالسياسة الخارجية، على رغم المعطيات الخطيرة المستجدّة فى ليبيا.

لم تكن مدة الـ30 يوما كافية للحبيب الجملى ذى الخبرة السياسية المحدودة لتشكيل الحكومة بعد تكليفه من «حركة النهضة» (الكتلة الأكبر فى البرلمان بـ52 مقعدا) بهذه المهمة وطلب من رئاسة الجمهورية التمديد شهرا آخر كما يقتضى الدستور. ولم تسفر اللقاءات والمشاورات المتتالية التى قام بها مع عدد كبير من السياسيين والإعلاميين والقضاة والمحامين والفنانين والخبراء الاقتصاديين وعدد من مكونات المجتمع المدنى، عن أى نتيجة تذكر. معطيات رجحت قراءتين، الأولى مفادها أن الجملى محدود التجربة السياسية، لم يتوقع حقيقة الصعوبات التى ستعترضه واندفع من دون قراءة كافية للمشهد السياسى الجديد، منتشيا بتطمينات «حركة النهضة» المرتبكة أساسا، فاصطدم بالواقع ووجد نفسه متخبطا يستجدى الأحزاب للتوافق من أجل تشكيل فريقه الحكومى. حالة ولدت من منطلق نسيان الجملى أو ربما إساءة تقديره لكون مهمة تشكيل الحكومة تقتضى توفر حزام سياسى واسع، يتحرك داخله بسهولة لدى اختيار وزرائه ويمنحه فى مرحلة لاحقة إمكان نيل الثقة داخل البرلمان لبدء مهماته. ولهذا وجد الحبيب الجملى نفسه مطالبا بإيجاد هذا الحزام الذى يتطلب منه خوض امتحان صعب يحدد مدى قدرته على إقناع الأحزاب المنسحبة من المشاورات، على غرار «حركة الشعب» و«التيار الديمقراطى»، بالعودة من جديد إلى المفاوضات. اختبار تعى «حركة النهضة» صعوبته وربما استحالته مع تمسك هذه الأحزاب بحقائب وزارية لا ترغب الحركة فى التخلى عنها. وما زال الجملى يواصل البحث عن هذا الحزام، محاولا اختراق الشروط الصارمة التى تضعها تلك الأحزاب المفترض وجودها فى الحكومة.

***
وفى المقابل وفى القراءة الثانية، فإن تكليف الجملى لا يعدو أن يكون مسرحية لإلهاء الناس والمتابعين عن المشاورات الحقيقية التى تُجرى وراء الكواليس بإشراف مباشر لـ«حركة النهضة». مشاورات يرجح المتابعون أنها التى سيتمخض عنها الفريق الحكومى فى نهاية المطاف ولن يكون على الجملى إلا إعلان المباركة وربما يتم استبعاده وتعويضه بغيره. وهذا السيناريو عبرت عنه أطراف سياسية ونقابية فى تونس، على غرار نور الدين الطبوبى الأمين العام لـ«الاتحاد العام التونسى للشغل»، الذى أقر بوجود مشاورات موازية لتلك التى يقوم بها رئيس الحكومة المكلف، على رغم نفى «حركة النهضة».

لكنه السيناريو الأكثر واقعية، لأن «النهضة» التى تحاول الترويج لفكرة أنها رشحت شخصية مستقلة لرئاسة الحكومة، ونعنى بذلك الحبيب الجملى، على رغم إدراك الجميع انتماءه وولاءه لها، لن تترك له المساحة مفتوحة ليتحرك بحرية، ولهذا تعمدت ألا توفر له مسبقا الحزام السياسى اللازم وجعلت مهمته فى غاية التعقيد. فى المقابل، احتكرت «النهضة» فعليا مسألة اختيار شركائها المفترضين للخمس سنوات المقبلة، على أن تترك لرئيس الحكومة المكلف مهمة تمرير الصورة النهائية أمام الرأى العام، وفق التصورات التى أرادتها منذ البداية.

ويبدو أن الحركة المسكونة بالخوف من الخروج من دائرة الحكم فى الاستحقاقات المقبلة، متمسكة بقيادة تشكيل الحكومة والإشراف المباشر على مخاضها، على أمل بأن تنجح فى تحقيق بعض الطموحات، على الصعيدين الاقتصادى والاجتماعى، عسى أن توقف بذلك خساراتها الكبيرة لقواعدها التى تراجعت بأعداد قياسية. ولكن المؤشرات الأولية ترجح وقوعها فى أخطاء الماضى فى ظل غياب البرامج والمشاريع الكفيلة بتحقيق نتائج تذكر على مدار الخمس سنوات المقبلة، بل إن القرارات المرتقبة تصب فى تحميل المواطن المزيد من الضرائب ورفع أسعار منتجات أساسية. وحتى اليوم لا تزال الأمور ضبابية وغير واضحة، مع اجترار الشعارات ذاتها التى رافقت الثورة، على غرار مقاومة الفقر والفساد وتحسين ظروف عيش المواطن والعدالة الاجتماعية، والتى لم يتحقق منها شىء مع الحكومات التى تلت 14 يناير والتى كانت فى مجملها تحت إشراف «حركة النهضة».
***
أما البرلمان، فإن الغليان فيه على أشده فى ظل التناقضات الكبيرة التى ظهرت بوضوح بين كتله، بسبب انتمائها لتيارات سياسية وفكرية مختلفة. حالة عدم الانسجام بدأت منذ الجلسة الافتتاحية التى شهدت فوضى، بسبب عدم الاتفاق حول بروتوكول القسم. تلك الحادثة كانت بمثابة إنذار لما سيكون عليه الوضع بين الكتل فى الأيام المقبلة، وهو ما حصل فعلا. ففضلا عن السجال والاختلاف الكبير الذى لا يتوقف بين النواب يوميا حول ملفات مهمة، شهد المجلس اعتصام نواب «الحزب الدستورى الحر» داخله على خلفية مناوشات كلامية وقعت بين رئيسة الكتلة ونائبة عن «حركة النهضة». وترتب عن هذه الحادثة ارتباك كبير داخل البرلمان وتعطل سير جلساته لأيام.

وعلى رغم فض الاعتصام والعودة إلى حالة الهدوء النسبى فى الجلسات الأخيرة، إلا أن هذه التناقضات ما زالت تلقى بظلالها على مسار التحالفات التى تبحث عنها «حركة النهضة»، لتحصيل الأغلبية وضمان تمرير مشاريعها. إن وجدت. وأولها الحكومة المرتقبة التى يتعطل تشكيلها، بسبب ما يحصل بين الكتل داخل البرلمان.

وتتهم «النهضة» من قبل عدد من الأحزاب بالمناورة بإعلان رفض التحالف مع «حزب قلب تونس» علنا، فيما تتفاوض معه سرا. علما أنه كان هناك تحالف أولى بين «النهضة» و«قلب تونس» أسفر عن فوز زعيم الحركة راشد الغنوشى برئاسة البرلمان.

ولم تنجح مفاوضاتها حتى الآن مع حزبى «حركة الشعب» و«التيار الديمقراطى» اللذين اشترطا نيل وزارات بعينها مقابل التحالف مع «الحركة» لكن لا يبدو أن الأخيرة على استعداد للتنازل عن هذه الحقائب وتريد الاستئثار بها.

ويذكر أن هذه التناقضات التى أفرزت هذا الوضع فرضتها نتائج الانتخابات التشريعية التى لم تمنح أى جهة أغلبية مريحة وأثمرت عن فسيفساء من الكتل الصغيرة وغير المتجانسة. فقد تصدرت «حركة النهضة» بـ52 مقعدا من مجموع 217، فيما حل «حزب قلب تونس»، حزب المرشح السابق للانتخابات الرئاسية نبيل القروى، ثانيا بـ38 مقعدا، فـ«التيار الديمقراطى» بـ22 مقعدا، يليه «ائتلاف الكرامة» المحسوب على «النهضة» بـ21 مقعدا، ثم «الحزب الدستورى الحر» بـ17 مقعدا و«تحيا تونس» بـ14 مقعدا فـ«مشروع تونس» بـ4 مقاعد، فى حين لم تتجاوز الأحزاب الأخرى والقوائم المستقلة 3 مقاعد.

وإن كانت هذه الحالة تفرض فى دول ذات تاريخ ديمقراطى عريق اللجوء إلى انتخابات مبكرة عسى أن يمنح الناخبون خلالها أحد الأطراف غالبية مريحة، فإن أغلب الأطراف داخل البرلمان التونسى لا تتطلع مطلقا إلى هذا السيناريو. ولهذا قد تحمل تحركات اللحظات الأخيرة تحالفات مفاجئة، قد تعيد الأحزاب التى أعلنت الاصطفاف فى خط المعارضة إلى دائرة الحكم وقد يتم إرضاؤها ببعض الحقائب الوزارية.
***
أما على مستوى رئاسة الجمهورية، فما زال الرئيس قيس سعيد يواصل خطاه الغامضة، ولم يصدر عنه أى خطاب يكشف بوضوح حقيقة توجهاته الجديدة وخطواته الممكنةللالتزام بوعوده أمام الشباب، الذين التفوا حوله من منطلق إيمانهم بأنه الأكثر تفهما لمشاغلهم. وكى لا نبالغ فى تقدير إمكانات الرجل ونتجاوز سقف صلاحياته، فإن صمت سعيد عن التصعيد الإسرائيلى الأخير فى الأراضى الفلسطينية أحرجه وأسقطه فى التناقض. فبعدما روّج بقوة فى الحملة الانتخابية لفكرة دعم القضية الفلسطينية واعتبارها من أمهات القضايا، اختار دور المتفرج من دون النطق بأى تنديد على الأقل. من جهة أخرى، حافظ الرئيس التونسى على صمته، على رغم ما يحصل هناك فى الجوار، وتحديدا فى ليبيا من تطورات سياسية وأمنية خطيرة على غرار الاتفاق الليبى– التركى، المتصل بشرق البحر الأبيض المتوسط وهجوم الجيش الليبى على طرابلس. وسعيد كان أكد سابقا أن تونس ستكون فى ظل رئاسته لاعبا فاعلا فى الملف الليبى. والحال أن هذه الملفات تدخل فى سياق مهماته المتعلقة بالسياسة الخارجية، فضلا عن معطيات متصلة بعلاقات تونس بمحيطها العربى والعالمى، إذ لم يصدر عن سعيد أى خطاب يشرح رؤيته فى المستجدات الراهنة، كما أنه لم يوجّه رسائل لطمأنة الشعب وشركاء البلاد.

النص الأصلي

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved