«القائد البطل» يستولد الفراغ وإسرائيل تحالف «داعش»!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 21 يناير 2015 - 8:10 ص بتوقيت القاهرة

يتبدّى المشرق العربى، خاصة، والوطن العربى عموما، صحراء مفرغة من العمل السياسى، تجتاحها رياح التعصب باسم الموروث الدينى فى مواجهة افتقاد الهوية والضياع فى غياهب العلمنة وسائر موجات الهرب من الذات بذريعة الالتحاق بالعصر.

تهاوت الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية، بما فى ذلك النقابات المهنية، وتمّ إفراغ مجال العمل العام من قواه الحية بعدما استولت السلطة، وهى عسكرية فى الغالب الأعم تساندها أجهزة مخابرات متعددة الفروع تشمل «اختصاصاتها» مختلف مجالات النشاط السياسى والفكرى، على الحياة العامة بمنابرها وساحاتها ودوائرها الحزبية وهيئاتها الاجتماعية.

ولقد تمدد هذا الفراغ وهيمن ناشرا الخوف من الحاضر واليأس من المستقبل، ورحلت القوى الحية إلى الصمت أو إلى الخارج تبيع كفاءاتها وأفكارها وطموحاتها لمن يدفع، بعدما حُرمت من أن تنفع بها بلادها.

دار التاريخ بهذه الأمة دورة كاملة فأعادها إلى نقطة الصفر فى سعيها نحو مستقبلها الأفضل بالوحدة التى تؤكد القدرة، والحرية التى تفجر الطاقات والمواهب وتبلور خط السير عبر فرز قاطع بين الحلفاء والمناصرين من جهة وبين الخصوم والأعداء، فى الداخل والخارج، من جهة ثانية.

لكأن الأمة تقهقرت إلى الخلف قرنا كاملا، فى عصر الدقيقة بل الثانية، لتجد نفسها ممزقة الجنبات، مهدورة الكرامة، تائهة عن أهدافها، تفتقد قدرتها على الفعل، مفتوحة للقادر على أخذها بالقوة أو بالحيلة، باستغلال الفقر فيها وهى بمجموعها الأغنى، أو باستثمار تخلفها بعدما كانت قد وضعت أقدامها، أو هكذا افترضت أو توهمت، على باب العصر، مؤهلة لدخوله.

•••

ففى مثل هذه الأيام من القرن الماضى، وفى غمرة الاستلام والتسليم بين الاستعمار العثمانى (التركى) باسم الدين والخلافة، والاستعمار الغربى ممثلا ببريطانيا وفرنسا، أساسا، (وايطاليا فى ليبيا)، أخذت تتبلور الجهود فكريا وثقافيا ومن ثم سياسيا لاستعادة الهوية الأصلية الجامعة لهذه الأمة.. وها أن العرب يجدون أنفسهم اليوم فى مواجهة أسئلة حول الهوية والحق فى تقرير المصير والبحث عن غدهم الذى يتهدده الضياع، مثلهم قبل قرن كامل، بينما اختلف الزمان فصارت وحدة القياس هى الساعة أو أقل وليس الجيل أو السنة أو الشهر أو حتى اليوم.

ولقد خاضت شعوب هذه الأمة كفاحا مجيدا من أجل استعادة هويتها واستقلال قرارها وإعادة بناء أوطانها، فى مواجهة الاستعمار الخارجى الذى بلغ ذروة عدائيته عبر اقتطاع فلسطين لتقديمها غداة استقلال هذه الأقطار دولة للحركة الصهيونية باسم إسرائيل، لقطع التواصل بين المشرق والمغرب، بعنوان مصر..

ولم يكن الرد على مشروع الكيان اليهودى على أرض فلسطين، وكذلك على الاستعمار الغربى عموما، دينيا، بل كان عقائديا وسياسيا بالدرجة الأولى.. وهكذا توالى ظهور الأحزاب والحركات السياسية فى المشرق بالذات على قاعدة فكرية قومية تقدمية، عموما. وكان لافتا أن يتصدر قيادة هذه الأحزاب مناضلون عرب مسيحيون، بالدرجة الأولى (أنطون سعادة من جبل لبنان، الحزب السورى القومى الاجتماعى، ميشال عفلق، من قلب دمشق، حزب البعث العربى الاشتراكى، جورج حبش من قلب فلسطين، حركة القوميين العرب.. فضلا عن الأحزاب الشيوعية التى برزت فى الصفوف الأولى لقياداتها شخصيات مسيحية أو من أصول غير عربية، وبالذات كردية، نقولا الشاوى فى لبنان، خالد بكداش فى سوريا، عزيز محمد فى العراق الخ..).

•••

بذريعة فلسطين وضرورة الرد على الهزيمة فيها وضرب المشروع الصهيونى ممثلا بإسرائيل، اختطف «العسكر» دورا قياديا يتجاوز قدراتهم، خصوصا أنهم بحكم تربيتهم يتصرفون بقوة الأمر.. أما الأدهى منهم فقد اتخذ من الشعار الحزبى ستارا لتنفيذ مشروعه فى السيطرة على السلطة. وهكذا احتلت مسرح العمل العام أنظمة عسكرية تموّه حقيقتها برايات العروبة أو الماركسية اللينينية (حتى لا ننسى تجربة اليمن الجنوبى).. لا سيما بعدما فشلت أحزاب البرجوازية الوطنية فى استقطاب الجماهير كما فى بناء «الدولة».

تم تدريجيا تغييب الشعب عن ساحة العمل العام، وتم اختصار الدولة بالحزب، ثم أخذت غواية السلطة الحزب إلى الاستعانة بالعسكر بوهم اختصار مرحلة التحول، فانتهت التجربة بأن التهم الجيش الحزب وتولى «الأقوى» فى الجيش احتكار السلطة، مموّها حقيقة تفرده بالشعارات الحزبية ذات الرنين.. ومن أجل السيطرة الكاملة على الجيش كان بديهيا أن يلجأ «الرفيق القائد» إلى تطهير الصفوف من المشكوك فى ولائهم لشخصه، بحيث تخلص له السلطة بمفاصلها جميعا، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتسبغ عليه صفات «المفرد» و«الأوحد» و«الخالد» الخ..

•••

بديهى والحال هذه أن تغادر الجماهير الشارع، وأن تفقد قدرتها على التأثير، وهى بلا قيادة وبلا برنامج وبلا إطار جامع وبلا قدرة على الفعل، وفروع المخابرات المختلفة تتابع حركتها وتحصى عليها أنفاسها، فتعين للأحزاب التى غدت هياكل مفرغة من القدرة على الحركة قياداتها، وتكتب لها برامجها لتكون منضبطة فى التزامها بوحدانية «القائد البطل»..

«قائد» أقوى ما فى «دولته» أجهزة المخابرات، وشعارات حزبية مشعة ترفرف فى الفراغ، لأن أعضاء الحزب يُمتحنون فى ولائهم للنظام الذى يصير قائدا فردا، لا شريك له ولا نائب. الشعب فى الحزب والحزب هو السلطة، لكن القيادة فعليا للقائد الفرد.

.. والفراغ يستدعى «داعش» وما يماثلها من تنظيمات التعصب المسلح الوافدة من المقولات الأكثر تخلفا فى «الدعوة» إلى إسلام سياسى مجاف لروح العصر وللكرامة الإنسانية، وافد من جاهلية مندثرة ترفع شعار «الخلافة» وتستخدم وسائط التواصل الاجتماعى لبث الرعب فى الداخل والخارج، تنهب مقدرات البلاد وتفتح الباب لمساومات مكشوفة مع دول الجوار، متجاوزة حالة العداء المعلن (كما مع إسرائيل) أو المستتر (كما مع تركيا)..

... ولقد استدعى هذا الفراغ، قبل مئة عام أو يزيد، الاستعمار الغربى.. ثم أفاد منه الاستعمار الغربى للتمكين للمشروع الإسرائيلى فى قلب هذا الوطن العربى، وها هو الآن وبعدما دمّرت أنظمة الدكتاتورية الأمة بقمعها وتخلفها الفكرى وغربتها عن العصر يستدعى «داعش».

•••

إن مراجعة سريعة للاتهامات الموجهة إلى أنظمة القمع التى حكمت دول المشرق العربية طوال نصف القرن الأخير، تزيل الاستغراب من أن يتمكن «داعش» من احتلال صحراء الفراغ فى مركز القرار، قبل أن يقتحم الأرض بمن وما عليها.

كذلك فإن مثل هذه المراجعة تكشف الانهيارات الأسرع من الصوت التى توالت على «الجبهات» التى اقتحمها «داعش» بغير قتال فى معظم الحالات.

لقد استدعى الفراغ من يفترض فى ذاته القدرة على ملئه... فقد سقط مركز القرار قبل أن تسقط المناطق التى اجتاحها «داعش» وظل يتقدم فيها مستدعيا بالشراكة مع النظام المتهالك التدخل الأجنبى الذى كان ينتظر مثل هذه اللحظة ليتقاسم مع «داعش» تركة الأنظمة التى دمرت الدول التى حكمتها فأعجزتها عن المقاومة.

إن العجز عن مواجهة «داعش» قد تسبب فى أن يحمل العرب خاصة والمسلمون عموما بعضا من المسئولية عن المذبحة التى نظمها بعض الإرهابيين ضد مجلة «شارلى إبدو» والتى ذهب ضحيتها بعض المميزين من رسامى الكاريكاتور الذين تلاقوا فيها.

وهذا العجز هو الذى مكّن سفاحا مثل بنيامين نتنياهو أن يتصدر التظاهرة المليونية لاستنكار الجريمة التى دفع وسيدفع العرب ثمنها من دمائهم ومن كرامتهم الإنسانية فضلا عن حقهم فى الانتماء إلى العصر..

على أن هذا العجز لا يبرر للسلطات الفرنسية أن تقبل وجود السفاح الإسرائيلى فى الصف الأول للمتظاهرين استنكارا للجريمة، غير بعيد عن ضحيته الأبرز، ممثل فلسطين.. ولا يبرر لهذه السلطات أن تسلم جثث المواطنين الفرنسيين الأربعة، برغم كونهم يهودا، إلى سلطات الاحتلال الإسرائيلى لكى يُدفنوا فى أرض فلسطين المحتلة متجاوزة ما يشكله هذا التصرف من إقرار للسفاح بادعائه أن «إسرائيل هى دولة يهود العالم».

•••

إن هذه الجريمة تكشف، فى جملة ما تكشفه، واقع الشراكة الفعلية القائمة بين العدو الإسرائيلى و«داعش» وهى نموذج للشراكة بين الفاعل والمستفيد.

إن كليهما نموذج كامل للتعصب رافع الشعار الدينى ستارا ووسيلة للتحكم وفرض سلطته المطلقة.

الفارق أن الإسرائيلى قوى على العالم كله، بدعم من الحركة الصهيونية ذات النفوذ الدولى الكامل نتيجة سيطرتها على «لعبة المال» فى الكون، والثانى قوى بحكم الضعف المستشرى فى أوصال الدول العربية التى ليست دولا قادرة على مواجهة متطلبات العصر... ففقيرها مرتهَن للأغنى، وغنيها مرتهَن للأقوى، وإسرائيل تجمع بين الأغنى والأقوى، وإن تمثل سلاحها الأعظم فتكا فى الضعف العربى الذى يكاد يذهب بأهله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved