تراجيديا الثورات المصرية

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 21 يناير 2018 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

أليس من المحزن فى تاريخ هذا الشعب أن كل ثوراته قد أخفقت، ولو إلى حين، فى تحقيق بعض أهدافها، وأنه عندما تحل ذكراها فإن السؤال الذى يتردد ليس هو كيف نجحت أى منها فى تغيير أحوال الوطن، ولكن لماذا لم يشهد قادتها وصولها إلى غاياتها؟، ولماذا ودعوا الحياة فى لحظة انكسار وهزيمة، وليس فى لحظة رضاء وافتخار؟ تحضرنى هذه الأفكار هذا الأسبوع وكثيرون فى مصر يسترجعون كيف تختلف مصر الآن فى تركيبتها الطبقية وفى سياساتها الاقتصادية وعلاقاتها الخارجية عما كان يدعو له عبدالناصر الذى مرت منذ أيام مائة سنة على مولده، كما تحل أيضا الذكرى السادسة لثورة يناير مقترنة باحتفال مصر الرسمية بما تسميه عيد الشرطة، والذى كان اختياره فى 2011 موعدا لقيام الثورة لا يخلو من مغزى، فقد سبقته احتجاجات واسعة على ممارسة بعض أفراد الشرطة تعذيبا وحشيا لعدد من شباب الوطن. فى حالة ثورة يناير أيضا يتردد السؤال لماذا ابتعدنا عن بلوغ أى من أهدافها فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية؟.

***

لم تخرج قصة أى من ثوراتنا عن هذه النهاية الحزينة. ولنراجع معا تاريخ كل ما حدث من ثورات فى مصر الحديثة. طبعا يمكن القول أن ثورتى القاهرة الأولى والثانية ساهمتا فى انسحاب جيوش نابليون من مصر فى أوائل القرن التاسع عشر، ولكن هذا الانتصار الجزئى كان يعود فى الأغلب للصراع الدولى بين بريطانيا وفرنسا والذى ذاقت فيه الأساطيل الفرنسية طعم الهزيمة فى أبو قير فى 1798، كما كان يرجع لتطورات داخلية فى فرنسا الثورة. أعقب خروج الفرنسيين تمرد مشايخ الأزهر على الوالى خورشيد باشا الذى عينه السلطان العثمانى نائبا له فى حكم مصر، واختار المشايخ محمد على حاكما لمصر بدلا منه، وكانوا يتصورون أن أمر البلاد فى ظل حكم محمد على سيكون شورى بينهم، ولكن فاجأهم محمد على بأن أولى خطواته كانت التخلص من زعيمهم الشيخ عمر مكرم. بنفيه إلى دمياط ثم بتهميش من سانده فى ذلك بعدها. وقام ضباط الجيش المصريون ومعهم طلائع طبقة متوسطة صاعدة بعد ذلك بعقود بثورة على الخديوى توفيق يطالبون بوضع حد للحكم المطلق وللتدخل الأجنبى، ولكن سرعان ما انتهى الأمر فى سنة باحتلال البلاد احتلالا دام أربعا وسبعين سنة، وعودة الحكم المطلق وعلى رأسه نفس الخديوى الذى ثاروا عليه، وبنفى قادتهم سنوات طوالا خارج الوطن. وحتى الثورة الشعبية ضد الاحتلال البريطانى فى سنة 1919 لم يشهد قادتها نهاية الاحتلال، وإنما أسبغوا عليه رداء قانونيا بتوقيع معاهدة 1936، ومات سعد زغلول قائد الثورة مكلوما بعد أن رأس حكومة مصر فى ظل إعلان بريطانى كان قد رفضه لأنه أخذ باليد اليمنى بالتحفظات الأربعة ما منحه باليد اليسرى بإنهائه لوضع الحماية الذى كانت بريطانيا قد فرضته فى مطلع الحرب العالمية الأولى فى سنة 1914. ولم يختلف شعور عبدالناصر عندما وافته المنية فى 28 سبتمبر 1970 عن شعور سعد زغلول من قبله. صحيح أن ثورة يوليو 1952 التى كان قائدها نجح فى إنهاء سيطرة رأس المال على الحكم، وعلى الملكيات الكبيرة فى الريف المسماة بالإقطاع، ولكن روحه صعدت إلى بارئها وقسم عزيز من أراضى الوطن تحت الاحتلال الإسرائيلى، ولو كان عبدالناصر بيننا اليوم لأحزنه أن يرى اتساع الفجوة من جديد بين الأغنياء والفقراء، وتمدد أعداد المصريين الذين لا يجدون ما يشبع حاجاتهم الأساسية، ولكان قد تألم للعلاقات الودية التى تجمع بين قادة مصر وقادة إسرائيل، واستمرار ما يسمى بـ«العلاقات الاستراتيجية» بين مصر والولايات المتحدة، على الرغم من تحيز حكومة الأخيرة الصارخ مع إسرائيل التى تعمق احتلالها للأراضى الفلسطينية والسورية التى كانت قد اغتصبتها فى يونيو 1967. ولا أظن أن الأمر يحتاج توضيحا لما جرى لثورة يناير 2011. قادتها من الشباب فى السجن أو تحت الرقابة اليومية أو فى المنفى، وقنوات الإعلام التى تديرها مؤسسات الدولة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تصفها بأنها وليدة مؤامرة خارجية. وحتى لا يسوقنا التحليل السابق إلى تصور أن تاريخ الثورات المصرية فريد بين الثورات التى عرفها العالم، فإن مقارنتها بغيرها من الثورات تكشف قاسما مشتركا. لم يعقب معظم الثورات تحقيق كل مطالبها أو معظمها مباشرة بعد انطلاقها. فلنتأمل تاريخ بعض الثورات الكبرى المعروفة لنا لنكتشف أن أيا منها لم تحقق أهدافها النبيلة فى إقامة نظام بديل يترجم أهدافها إلا بعد فترة طويلة قد تمتد إلى عقود. وربما انتهت مسيرتها بانتكاسة على أهدافها وسياساتها. لعل الثورة الفرنسية مع الثورة الروسية هما المثلان المألوفان للثورات. أعقب الأولى بعد قيامها فى سنة 1789 فترة من عدم الاستقرار سميت بعض سنواتها بحكم الإرهاب، ومع أن غايتها كانت تتمثل فى إنهاء الحكم المطلق إلا أنه عاد أكثر من مرة بعدها، عندما تسلمت نفس العائلة المالكة السابقة الحكم بعد هزيمة نابليون من 1815 ــ 1830، ومرة أخرى فى ظل الحكم الديكتاتورى للويس بونابرت من 1851 حتى هزيمة فرنسا أمام ألمانيا فى 1870. وربما جاءت نهاية الحكم المطلق مع إعلان الجمهورية الثالثة فى 1870. وتخلل تاريخ فرنسا فى القرن العشرين أربع سنوات من الحكم المطلق تحت نظام فيشى وفى ظل الاحتلال الألمانى 1940ــ1944. كما أخفقت ثورتان فى روسيا فى 1905، وفبراير 1917 قبل وصول الشيوعيين إلى السلطة بثورة أكتوبر فى نفس العام. ومع ذلك شهدت روسيا منذ 1991 ظهور رأسمالية من نوع جديد على أنقاض الدولة الاشتراكية الأولى فى العالم. وفى إقليمنا الشرق أوسطى، لم يتصور من ثاروا ضد حكم الشاه فى إيران فى سنة 1979 أن تأتى ثورتهم بحكم ثيوقراطى يقيد حريات الفكر والتنظيم ويضع سلطات الدولة فى يد رجل دين غير منتخب.

***

فلماذا تخفق الثورات فى بلوغ أهدافها بعد نجاحها فى إسقاط نظم الحكم السابقة عليها؟ ولماذا يتأخر الوصول إلى بعض غاياتها ولا يتحقق ذلك غالبا إلا بعد اختفاء الجيل الذى قادها؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة قد تمكننا من أن نكشف سر إخفاق الثورات المصرية. هناك إجابات عديدة محتملة على هذه الأسئلة. منها مثلا أن نجاح الثوار فى إسقاط النظام القديم لا يعنى بالضرورة أنهم هم من سيتولون السلطة فى أعقابه. وحتى لو وصلوا إلى السلطة، فقد لا يتبعون السياسات التى تمكنهم من الوصول إلى غايات الثورة، إما لقلة خبرتهم، وإما لانقسامات فيما بينهم تحول بينهم والاتفاق على السياسات التى ينبغى إتباعها لتحقيق هذه الغايات، ومن ثم يطبقون سياسات ليست هى الأقدر على تمكينهم من بلوغ هذه الغايات، أو قد ينحرف التطبيق على يد أجهزة الدولة عن الغايات المقصودة من ورائه، أو قد يتعرضون لضغوط داخلية أو خارجية تدفعهم بعيدا عن المسار الأمثل الذى كانوا يخططون لاحتذائه.

وينطبق ذلك بدرجة كبيرة على ثوراتنا. لم يتول قادة ثورة 1919 السلطة معظم الفترة التى تلت نجاحهم فى أول انتخابات جرت بعد اعتماد دستور 1923، وعزف من قادوا ثورة يناير 2011 عن قبول مجرد المشاركة فى حكم البلاد بعد سقوط نظام حسنى مبارك.، ولم تكن كل السياسات التى اتبعتها حكومة مصر فى الستينيات من شأنها تعميق التحول الاشتراكى فى مصر، إلى حد أن عبدالناصر تحدث عن ظهور طبقة جديدة، وإن لم يقصد أنها خرجت من رحم نظامه، كما أعرب عن عدم رضاه عن التنظيم السياسى الذى وضع هو لبناته، كما أدت صعوبات اقتصادية وضغوط خارجية مثل قطع المعونة الغذائية من جانب الولايات المتحدة إلى العدول عن تطبيق خطة خماسية ثانية كان من شأنها الانتقال إلى مرحلة متقدمة من التصنيع.

***

أسباب إخفاق الثورات عديدة، ولاشك أن النقاش حولها يطول، ومثل كل القضايا المهمة فى تاريخ الإنسانية سوف يصعب الوصول إلى إجابة واحدة بشأنها. ومع ذلك لا يمكن إغفال ما يسميه أحد الفلاسفة بمكر التاريخ، ذلك أن بعض أهداف الثورة قد تتحقق ولكن بعد فترة من اختفاء جيل الثوار الأوائل، لاشك أن ثورة يوليو 1952 نجحت فى إنهاء الاحتلال البريطانى لمصر، وتم الجلاء مرتين فى سنة 1956، وهو ما كان قادة ثورة 1919 يتطلعون إليه، وتحقق هدف إسقاط الحكم المطلق وإقرار المساواة السياسية بين كل الفرنسيين بعد قيام الجمهورية الثالثة فى 1870، بعد قرابة قرن من الثورة الفرنسية.

ولكن كيف يمكن تفسير مكر التاريخ؟ أحد التفسيرات هو أن الثورات ليست حدثا عاديا فى تاريخ الشعوب، فهى تلبية لحاجات عميقة لدى قسم كبير من المواطنين ويتعاطف معها غالبيتهم، ولذلك فعلى الرغم من الهزائم يحلم المواطنون باستعادة ما كان قد تحقق من إنجازات الثورة، أو باستلهام روحها بإبداع سياسات وتنظيمات ومؤسسات جديدة تتفق مع أغراضها، كما أن أجيالا جديدة تجتهد فى فهم أسباب إخفاق الموجات الثورية الأولى، وتتصور كيف كان من الممكن التغلب عليها، ولأن الغايات الكبرى للثورات فى الحرية والمساواة هى صالحة لكل مكان وزمان، فليست هناك دولة واحدة حققت الحرية بجميع أبعادها لكل مواطنيها، ولا يزال عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية سمة لكل النظم، ولذلك فسوف تظهر باستمرار أجيال جديدة تتطلع إلى أن تكون أكثر توفيقا فى بلوغ هذه الغايات. وهكذا سوف تتجدد الموجات الثورية فى كل المجتمعات، وإن أخذت أشكالا مختلفة، بعضها سلمى وبعضها عنيف، حتى ولو بدا أن الثورة حلم يداعب فقط مخيلة من لا يسيرون وأقدامهم على الأرض.

لا نستغرب لهذه الأسباب أن تكون مئوية عبدالناصر والذكرى السادسة لثورة يناير مناسبتين تجددان الأمل فى أن المثل العليا لكل منهما فى الاستقلال الوطنى والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية سوف تجد صداها الإيجابى فى واقع الوطن، وإن بعد حين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved