صراع الإنسان والقانون

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 21 يناير 2022 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

لعلك تذكر ــ عزيزى القارئ ــ أن مقالى السابق كان تحت عنوان «سقوط الأعمدة» وقد قصدت بهذا العنوان د. جابر عصفور والأسقف ديزموند توتو، واللذين توفيا فى نفس الأسبوع. وقد خصصت المقال السابق لدكتور جابر عصفور ووعدت أن يكون مقالنا هذا الأسبوع عن الأسقف ديزموند توتو، والذى يُعتبر أحد أعمدة الثقافة والدين فى العالم.
• • •
بالعودة إلى أيام الإمبراطورية الرومانية، عندما كان يعود أحد القادة الرومان منتصرا بجيشه وأسراه وعبيده وجواريه... إلخ، ينتظر خارج المدينة عدة أيام حتى يُنَظم له القصر الإمبراطورى حفل استقبال رسمى وشعبى يليق بانتصاراته، يقوم فيه الشعب بالاصطفاف على جانبى الطريق المؤدى إلى القصر الإمبراطورى رافعا أقواس النصر والزهور وسعف النخيل... إلخ، حيث يكون فى شرف استقباله على بوابة القصر الإمبراطور بشخصه وحاشيته، وعلى طول الطريق كان يقود المركبة أحد القادة المتميزين من أصحاب الانتصارات السابقة، ويجر المركبة حصانان ملكيان مزينان، ويقف القائد المنتصر مزهوا بنصره بجوار قائد المركبة ليحيى الجماهير التى خرجت على بكرة أبيها لتهتف له هتاف النصرة، ملوحين ترحيبا لقائدهم المنتصر، وكان يقف خلف القائد المُحتفى به أحد الفلاسفة يردد له جملة فى أذنه نصها «تذكر أنك إنسان»، وكان دور الفيلسوف أو الحكيم فى القصور الرومانية مستُشارا للإمبراطور، والتى يمكن أن يؤخذ بها أو لا يؤخذ.
• • •
فى العصر الحديث قرر نيلسون مانديلا بعد أن صار ــ تاريخيا ــ أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا، أن يُعين الأسقف ديزموند توتو مستشارا له، وذلك بعد نجاح الثورة على الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا، ولقد استعار مانديلا ــ كما ذكر فى أكثر من خطبه له ــ نظام الحكيم أو الفيلسوف الذى كان يُعَين مشيرا للإمبراطور الرومانى، ورأى فى الأسقف توتو نموذجا فريدا لرجال الدين الحكماء الذين استوعبوا جيدا معنى الأديان ورسالتها الأخلاقية من أجل الإنسان، فأنتج خطابا مُنتصرا للإنسان ومعاديا لأى ظلم أو اضطهاد قد يتعرض له أى إنسان فى أى مكان فى العالم، فهو من رجال الدين الذين رفضوا الانعزال عن العالم وانغمسوا فيه وفى مشكلاته، ومثل هؤلاء لا يستطيعون الصمت.
قال لى توتو فى حديث مباشر وكل منا ينتظر طائرته فى مطار سان فرانسيسكو: «أتمنى لو كنت أستطيع الصمت لكن لم ولن أستطيع»، ولا أظن أنه كان صادقا حتى فى أمنيته تلك فهو لم يصمت إطلاقا على الانتهاكات، سواء قبل أو بعد نجاح ثورتهم ضد الفصل العنصرى، ولا على الجرائم التى ارتُكبت فى جنوب إفريقيا، وقد عمل على إنهاء نظام الفصل العنصرى بلا كلل فكان بمثابة «البوصلة الأخلاقية للشعب الجنوب إفريقى»، وقد حال وجود الأسقف توتو المؤثر دون انزلاق جنوب إفريقيا فى ظل حكم الأغلبية السوداء لما هو أسوأ، أو أكثر عنفا ضد الأقلية البيضاء حتى بعد أن تقاعد عن مهامه كرئيس أساقفة كيب تاون، فقد ظلت له مكانة جعلت رأيه مسموعا دائما ويوضع فى حسبان من يحكمون دوما. كما لم يتوقف نضاله بعد إنهاء نظام الفصل العنصرى بنموذج ديمقراطى يتبنى قاعدة «صوت واحد لكل مواطن».
كذلك لعب توتو دورا هاما فى رأب الصدع وتجاوز محنة الماضى من أجل بناء المستقبل وذلك من خلال رئاسته لجنة تُدعى «لجنة البحث عن الحقيقة وإمكانية المصالحة» والتى تشكلت للكشف عن الفظائع التى ارتُكبت أثناء عهد نظام الفصل العنصرى، والعفو عن المسئولين عن ارتكاب تلك الفظائع إذا اعتذروا عنها وقَبل المتضررون منها ذلك، والهدف هو تقديم نموذج إنسانى به يساعد المجتمعات التى عانت من صراعات اجتماعية ممتدة؛ سواء من أسس عرقية أو قومية أو دينية حتى يتجاوزوا هذه الحقبة الصعبة فى تاريخهم، متطلعين لمستقبل أفضل للأجيال القادمة، ولقد كره توتو الصمت على الظلم والمعاناة ليس كموقف شخصى لكن كمبدأ إنسانى عام يجب أن يُطبق فى كل زمان ومكان.
• • •
فى حديث تليفزيونى تحدث نيلسون مانديلا عن توتو قائلا: «إن أبرز صفات الأسقف توتو هى استعداده لأخذ مواقف لا تحظى بالتأييد الشعبى دونما خوف، ومثل هذا الاستقلال الفكرى أمر حيوى لأى ديمقراطية مزدهرة» ونرى أن هذا الموقف كان أيضا ضروريا لإنتاج أفكار مبدعة كتلك التى أنتجها الأسقف توتو، ونحن نرى أن الاستقلال الفكرى هو الذى ينتج شخصيات تتمتع بقوة أخلاقية تكون بمثابة الضمير للأمم والشعوب، وهو الذى ينتج أناسا قادرين على التفكير خارج الصندوق بحثا عن حلول عملية لكثير من الصراعات والسعى لحلها بوسائل سلمية مهما تكن حدة التناقضات والتعارض بين مصالح الأطراف المتصارعة. وهنا نذكر أننا فى مصر فى أمس الحاجة لهذا الاستقلال الفكرى كى نتمكن من مواجهة مشكلاتنا وصراعاتنا فى مصر ومنطقتنا العربية .
من أروع ما حققه الأسقف توتو رفعه لشعار «القصاص والتسامح».

ولقد بذل الأسقف توتو جهدا ضخما ليُقنع الدولة بسن قانون خاص بجرائم المرحلة الانتقالية لأن هذه الجرائم ارتُكبت فى ظروف استثنائية، ولذلك أسس محاكم خاصة بقانون خاص دُعى: «قانون المرحلة الانتقالية»، ويبدأ العمل بهذا القانون بعد انتهاء الحكم فى القضية الجنائية العادية، فالقضية تسير فى مجراها الطبيعى ويحكم القاضى على الجانى، ثم فى جلسة قضائية خاصة تُستدعى عائلة المجنى عليه لتجلس مع الجانى ومعهما رجل دين أو أكثر، وبعد حوار يتقدم الجانى إلى المجنى عليه طالبا الصفح والمسامحة فإذا سامحه المجنى عليه يُطلق حرا، وإذا رفض يُطبق عليه الحكم فورا. ولقد سبق هذه الإجراءات وأثناء المحاكمات دعاوى ضخمة إلى الحب والتسامح فى الكنائس وكل دور العبادة بل وفى المدارس والجامعات والمصالح الحكومية والقطاع الخاص وقد قام بها رجال دين وثقافة وأساتذة جامعات وشخصيات عامة، وقد أرسل لى صديق من جنوب إفريقيا شريطا سينمائيا به بعض الجلسات التى تمت بين الأسر بعد إصدار الأحكام بها رجال دين وثقافة وسياسة وفنانين وأدباء... إلخ، وقد اخترت لك ــ عزيزى القارئ ــ إحدى أكثر المواقف المؤثرة.

وقف رجل أبيض يرفع صورة زوجته وهو يبكى أمام هيئة المحكمة يحكى أنه كان عائدا ليلا مع زوجته متأخرا بعد حضورهما حفل زفاف، تقدمت الزوجة وأخرجت مفتاح الباب من جيب معطفها الأزرق والذى ارتدته لأول مرة، وصعدت الدرجتين، وقبل أن تضع المفتاح فى الباب أطلقت أنت (مشيرا إلى المتهم) عليها الرصاص وقتلتها، سَقطت على الأرض، كان الجميع يبكون لبكاء الرجل، تقدم رجل دين وقرأ من الكتاب المقدس بعض الآيات عن الغفران، ثم تقدم الجانى وهو يبكى وطلب من الزوج الغفران، وهنا تدخل القاضى موجها حديثه للزوج قائلا: أذَكرك بأن القانون والعدالة قضت بإعدام الجانى، والكلمة الأخيرة لك، خذ وقتك فى التفكير ولو أردت التأجيل نؤجل، ولو أردت التنفيذ ننفذ الحكم حالا.

وقف الزوج والدموع تترقرق فى عينيه موجها حديثه للقاتل قائلا: «لقد ناقشت الأمر مع أبنائى ومع عائلة زوجتى، وقرارنا الجماعى أنه كما غفر الله لنا خطايانا وقبلنا لديه وسامحنا، فباسم أسرتى وخاصة زوجتى لأنها لو كانت معنا اليوم لغفرت لك نحن نسامحك»، تعانق الجانى والمجنى عليه، وسط بكاء الجميع.
• • •
لا شك أننا فى مصر فى أحوج ما نكون لدراسة هذا النموذج الفريد الذى قدمه الأسقف توتو، والاستفادة من تجربته النضالية الجبارة التى ستظل واحدة من أقوى التجارب النضالية فى العالم التى سجلها التاريخ خاصة ونحن نردد دائما إننا «شعب متدين».
«لا مستقبل مُنيرًا لشعب بدون غفران»، مقولة مشهورة للأسقف توتو من قلب المعاناة تجدها أينما توجهت فى طول البلاد وعرضها.
وقد تم دفن «رماد» الأسقف توتو خلف المنبر فى كاتدرائية القديس جورج فى كايب تاون والتى شغل منصب رئيس الأساقفة فيها لمدة ٣٥ عاما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved