أوهام احتكار المحيط!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 21 يناير 2023 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

تابعتُ ذلك الجدل الذى اشتعل أخيرا حول فن الرواية، وحول الكتابة عموما، وأحببت أن أقدِّم هنا رؤيتى الخاصة، دون المصادرة على من يخالفنى فيها.
ليس صحيحا أن هناك لونا واحدا من الروايات الرفيعة والعظيمة، وما عداه ليس روايات، وليس أدبا، وليس كتابة بالمرة.
ليس ذلك صحيحا على الإطلاق، لا فيما يتعلق بتاريخ فن الرواية، ولا بتاريخ أى فن من الفنون، بل إنه ليس صحيحا فيما يتعلق بأى شىء من الأشياء.
من حق أى شخص أن يرى أن هذا الشكل هو الأفضل والأرفع، ولكن من دون أن يسفِّه أنواعا وأشكالا أخرى يقبل عليها القراء.
سبب هذا التباين واضح وسهل، فالبشر مختلفون، ومطالبهم من القراءة، أو الفرجة على الأفلام، ليست جمالية بالضرورة، ولكنها مطالب تشبع حاجاتٍ بعدد البشر تقريبا.
ورغم أننى ناقد لا يتنازل عن المطلب الجمالى فى التقييم والحكم، فلم يحدث أبدا أن أنكرت بالمقابل اختيارات من يقرأ أدبا، أراه بسيطا أو حتى ضعيفا.
بل إننى أميل إلى الاعتقاد أن من يقرأ عموما، مهما كانت اختياراته، يمكن أن يكون قارئا محتملا مستقبلا، لما أراه الأفضل والأجمل فى فن الرواية أو السينما أو القصة القصيرة.
دليلى فى هذا الاعتقاد هو أننا لم نعرف الرواية مباشرة من خلال روائع محفوظ أوديستويفيسكى، ولكن مرحلة الاكتشاف بدأت بالأبسط والأوضح، بل لقد بدأنا مثلا بمرحلة ألغاز «المغامرون الخمسة»، وينطبق ذلك أيضا على اكتشافنا للسينما، وصولا إلى أفلام برجمان وتاركوفسكى.
عرفت الراحل أحمد خالد توفيق شخصيا، وتحدثنا كثيرا عن الرواية والأدب، وأتذكر أنه قال لى مرة إنه شخصيا تربى على كتابات وألغاز محمود سالم مثلى، وإن نموذج الرواية الأعظم لديه كان وما زال أعمال ديستويفيسكى بالتحديد، وروائع الأدب الروسى عموما، ولم يحدث مرة أن سمعت منه أن ما يكتبه لم يأت بمثله الأوائل، أو أنه أعظم من إدريس أو محفوظ أو ماركيز.
هذا دليل آخر على أنه لا موضع للجدل، لأن توفيق نفسه كان يؤمن بهذه التعددية، وبذلك التنوع.
فلماذا ينكر البعض عليه أن يكتب ما يحبه؟ ولماذا ينكرون على قرائه، بحاجاتهم المختلفة، أن يقرأوا ما كتب، وأن يحبوه؟
أعرف أن الأمر فيه أحيانا تجاوز وتعصب من بعض معجبيه، وهو أيضا أمر مستهجن، ولكنه لا يلغى دور الرجل فى اكتشاف آلاف الشباب للقراءة، ولا يلغى استقلال رأينا فيما يكتب عن هذا الحضور الجماهيرى، ولكن دون تسفيه أو تقليل من مطالب القراء المتنوعة من فن الرواية.
لا يجب أن ننزعج أبدا من جماهيرية كاتب ما، لا نرى فيما يكتبه النموذج الجمالى المنشود، ولا الرواية المتكاملة شكلا ومضمونا، ولا العمق أو أصالة المعالجة.
كل هذه الأحكام تتعلق بالقيمة الجمالية، والزمن وحده سيحفظها، بصرف النظر عن الرواج أو عدمه.
أقول دوما إن الزمن هو الاختبار الأهم للأعمال العظيمة، أما الرواج فيعبر عن التوافق مع الحاجات الإنسانية، وتلك الحاجات لا يمكن حصرها، وهى لا تعنى بالضرورة غياب ملكة الاستعداد لتذوق الأفضل والأجمل، فقد تتقدم الحاجة الجمالية الخالصة مستقبلا.
يحلو لى أن أشبّه الفن والأدب بالمحيط الواسع، ولكل إنسان مطلبه من المحيط: رؤية وارتزاقا وسباحة وسياحة وتجارة وصيدا وغوصا، وكل طرف يأخذ منه بقدر حاجته الملحة.
هناك من يكتفى بمقعد على الشاطئ، وهناك من يسبح ويعوم، وهناك من يأخذ قاربا للتنزه، وهناك من يخرج ليصطاد السمك، وهناك من يستخرج الملح من مياهه، وهناك من يغوص ليكتشف ما هو أعمق.
لا أعتقد أنه من الصائب أن تنكر على الآخرين طرقهم فى اكتشاف المحيط، حتى لو كنت ترى أن الغوص فى أعماقه يعطى الفكرة المثلى والأصدق عن المحيط.
هنا معنى تنوع الحاجات التى يشبعها الفن، ويشبعها الأدب، وتشبعها الكتابة عموما، وهنا يصبح من غير الصواب أن يحتكر أى طرف الرؤية لعلاقته بالمحيط.
أظن كذلك أن من يجلس بالقرب من الشاطئ، قد يفكر يوما أن يجرب ربما طريقة أخرى للاستمتاع بالمزيد من مباهج ومنافع المحيط، فإن لم يفعل، وظل جالسا على البر، فما كفر أو ارتد، ولكنه اكتفى بحاجته المحدودة.
يجب ألا نتنازل كنقاد عن أحكامنا الجمالية، دون أن نسفه من حاجات الآخرين المتنوعة، ودون أن نحتكر المحيط، أو نضيّق آفاق الفن والأدب.
أتذكر كلمات نجيب محفوظ لى فى حوارٍ نشرته فى العام 1990 فى مجلة «اليوم السابع» الباريسية. كنا وقتها وسط رواج مكتسح لفن القصة القصيرة، وكان الكثير منها رديئا، فذكّرت الأستاذ بمقولة ظريفة له، مفادها أنك لو ألقيت حجرا من النافذة، لسقط فوق كاتب قصة قصيرة!
سألته متخابثا: هل يعلن ذلك عن احتجاجكَ أم اعتزازكَ بكثرة كتاب القصة القصيرة عندنا؟
فأطلق محفوظ ضحكته المجلجلة، وقال:
«اسم الله على كل كتّاب القصة القصيرة، لم أكن أقصد الاحتجاج بالتأكيد، أنا سعيد جدا أنه مع انتشار التعليم لا شك قد ظهرت مواهب كثيرة فى مجال القصة القصيرة. على أيامنا وفى جيلنا، كان كتّاب القصة القصيرة لا يتجاوزون عشرة أدباء، الآن كتّاب القصة القصيرة يعدون بالمئات، وعندما يُعلن عن مسابقة يتقدم الآلاف، وهذا ينطبق أيضا على الشعر والمسرحية والرواية. كل هذه مواهب؟ لم لا؟ نحن عددنا فى مصر مثلا قريب من عدد سكان فرنسا وانجلترا، هناك يوجد بالعشرة آلاف كاتب فى كل مجال من مجالات الإبداع الأدبى، صحيح ليس كلهم من المشهورين، وصحيح أن الذين يكسرون الحدود لا يتجاوز عددهم ثلاثة أو أربعة، ولكن الباقين ليسوا على الهامش، إذ إن لهم قراءهم، وما زالوا يكتبون ويصدرون كتبا تُباع وتروج بأسمائهم».
من وقتها، أصبح رأى محفوظ عندى هو فصل الخطاب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved