الأزمة الأمنية المستعصية

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 21 فبراير 2016 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

يصعب الادعاء أن تدهور سمعة الأمن فى مجتمعه أزمة عابرة.
كأن بعض التصريحات تكفى لتخفيف وطأتها وبعض التشريعات تصلح لوقف تفلتها.
تعريف الأزمة خطوة ضرورية لتجاوزها.
تواتر انتهاك الكرامة الإنسانية لعامة المصريين واستخدام السلاح «الميرى» ترويعا وقتلا لدى أدنى مشادة شخصية أفضى إلى تقويض غير مسبوق لصورة رجل الأمن.
لم يعد ممكنا نسبة التفلت إلى «حوادث فردية» أو تعليق مسئوليته فى رقبة «أمناء الشرطة» وحدهم.
عندما تغيب دولة القانون يتوغل الأمن على الكرامة الإنسانية.
هنا صلب الأزمة ووجه الاستعصاء فيها.
فى حادث «مستشفى المطرية» «ثقافة مشوهة» ترى أن الأمن فوق المجتمع والقوة فوق القانون.
إذلال أطباء بقوة السلاح فيه خسف بأية قيمة إنسانية وقانونية وغياب الحساب الرادع أعطى رسالة سلبية أن هناك من يحمى التفلت بذريعة الحاجة إلى الأمن.
لا الأمن يرادف الخروج عن القانون ولا الحرب مع الإرهاب تسوغ العصف بكرامة المواطنين.
العكس هو الصحيح تماما، فالأمن يتأكد بالعدل لا بالقهر والإرهاب يدحر بالتماسك لا التفكك.
فى انفجار غضب الأطباء أزمة سياسية تطل على المشهد المرتبك وتنذر بنزع أية ثقة فى الحاضر.
لا يمكن أن يتوافر أى استقرار فى غياب القواعد القانونية.
فلا أحد مستعد بعد ثورتين لتقبل العودة إلى دوس الكرامة الإنسانية بالأحذية الثقيلة.
أرجو ألا ننسى أن الكرامة الإنسانية من أهداف ثورة «يناير» الأساسية التى عبأت المشاعر العامة ضد نظام «حسنى مبارك» وآلته البوليسية.
ولا أحد مستعد أن يتقبل من جديد أن يقول بعض منتسبى الشرطة أنهم «أسياد البلد» على ما صرح ذات مرة مدير أمن سابق.
هذا الاعتقاد لا يؤسس دولة حديثة تحترم حقوق مواطنيها ولا يوفر أمنا حقيقيا يحتاج إليه البلد فى حرب ضارية مع الإرهاب فضلا عن أنه يسىء إلى سمعة الأمن ويوسع دوائر الكراهية معه بأخطر من كل توقع.
وقد كان مقتل سائق «الدرب الأحمر» بثلاث رصاصات من رقيب شرطة إثر مشادة عادية تلخيصا دمويا فى الشارع لمدى «جنون التفلت».
ردات الفعل توحى برسائل خطيرة كشروع مواطنين عاديين فى قتل الشرطى.
فى الفعل ورد الفعل خروج عن القانون وسقوط لهيبة الدولة واحترامها.
بعض الهتافات التى رددتها الجموع الغاضبة أمام مديرية أمن القاهرة تنال بفداحة من شرعية الحاضر وتلقى بظلال كثيفة على المستقبل.
بالنظر إلى أن الجموع التى تهتف ضد الداخلية هى نفسها التى تصدت لتظاهرات الجماعة وعنفها بعد (٣٠) يونيو فإننا أمام شعور شعبى عميق بانكسار رهاناته على دولة العدل والكرامة.
وفق المنسق العام لأمناء وأفراد الشرطة فإن إعادة المحاكمات العسكرية لردع المتجاوزين «يخالف القانون».
أية مخالفة.. وأى قانون؟
الكلام لابد أن يتسق مع بعضه الآخر، فلا قانون يبرر القتل والبلطجة وتلقى الرشى كأنها من طبيعة الوظيفة.
بغض النظر عن مسألة المحاكمات العسكرية فإن الوضع كله مختل.
تلخيص الأزمة الأمنية فى حوادث الرأى العام لا يلم بالظاهرة لكنه يرمز إليها.
هناك تفلتات أخطر تتضمنها التقارير الحقوقية دون تحقيق جدى ولا تدخل لمنع تكرارها.
بعضها دخلت فى العلم العام مثل إحالة وقائع تعذيب حتى الموت فى أقسام شرطة إلى جهات التحقيق.
وبعضها الآخر بقيت فى سراديب الإنكار والتجاهل دون إيضاح للحقائق أو وقف للانتهاكات.
وفق تعهد وزير الداخلية اللواء «مجدى عبدالغفار» فإنه «لا حماية للذين لا يدركون معنى رسالة الأمن».
ما معنى رسالة الأمن؟
هذا سؤال فى صلب الأزمة تتعين الإجابة عنه بوضوح.
لا يوجد بلد فى العالم يستغنى عن أمنه.
الحق فى الأمن مسألة أولوية لأى مجتمع حتى يستطيع الوفاء بأية احتياجات أخرى.
عندما يتنكر الأمن لرسالته فإن حركة المجتمع ترتبك وثقته فى دولته تتآكل.
فما مفهوم الدولة التى يطلبها المصريون بعد ثورتين؟
الإجابة الشائعة: الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
غير أن الشواهد تناقض الادعاءات.
الأزمة سياسية فى المقام الأول.
معادلة الأمن والحرية إحدى المعضلات الرئيسية التى اعترضت تحولات (٣٠) يونيو.
كيف نحفظ الأمن ونقويه وندعمه فى الحرب مع الإرهاب دون أن يتغول على الحقوق والحريات العامة بلا مقتضى أو سند؟
لم تكن هناك أية إجابة.
أحد الأسباب الجوهرية للتفلت الأمنى أنه ليست هناك أية قواعد تنتسب إلى دولة القانون.
فى غياب القواعد مشروع فوضى مؤكدة.
وفق القانون فإن واجب الأمن حفظ سلامة وحياة المواطنين غير أن التفلت يحرض على الفوضى ويزعزع أركان الدولة.
فالتفلت ينال من الشرعية ويهدد مستقبل النظام ويفسح المجال أمام الإرهاب لكى يتمدد ويقوض كل أمل فى إنعاش الاقتصاد وجذب الاستثمارات.
إذا كان هناك من يتصور أن الانتقام من «يناير» يبرر حماية التفلت فهو يتصادم مع جذر الشرعية ويضع الأمن بمعناه الحقيقى وضروراته التى لا استغناء عنها فى العراء السياسى.
بكلام أوضح عودة «الدولة البوليسية» مستحيلة.
انظر إلى ردات الفعل على حادثتى« مستشفى المطرية» و«موقعة الدرب الأحمر» لتتأكد من حجم التغيير الذى جرى فى المجتمع المصرى بعد ثورتين.
«الدولة البوليسية» هى«الدولة الضعيفة».
كل التجارب العربية أثبتت الفشل الذريع لدول القهر والخوف.
بعد «يناير» تعالت نداءات إعادة «هيكلة وزارة الداخلية» غير أن الوقائع ذهبت فى اتجاهات أخرى.
باسم تقوية الأمن أعاد وزير الداخلية الأسبق «محمود وجدى» آلاف أمناء الشرطة المدانين إلى الخدمة مرة أخرى.
تلك العودة انتقصت من القانون وحرضت على التفلت.
لشهور طويلة طرحت أفكار ومبادرات وقدمت دراسات وأوراق غير أن نزوع الجماعة إلى «أخونة الشرطة» أفضى إلى تشويه مصطلح «إعادة الهيكلة».
تمردت الشرطة على قبضة الجماعة واحتمت بالتظاهرات التى خرجت تطالب بالدولة الحديثة، لا دينية ولا بوليسية.
كما تواترت التصريحات من داخل الجهاز الأمنى «أننا قد تعلمنا الدرس».
فى «يونيو» بدت فرصة كبيرة لمصالحة تاريخية بين الأمن وشعبه أهدرت سريعا بنزعات الانتقام من «يناير» والتحريض على الاغتيال المعنوى للشخصيات التى تصدرتها.
كان ذلك بداية الأزمة الأمنية المستعصية التى سحبت بفداحة من رصيد الشرعية.
إذا أردنا أن نصارح أنفسنا بالحقائق فإن إصلاح الجهاز الأمنى مسألة شرعية دستورية لا يمكن تأجيله بلا أثمان باهظة غير أنه لابد أن يستدعى إصلاحات أخرى تؤكد الحريات العامة وتفتح القنوات السياسية والاجتماعية بلا إبطاء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved